الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
( ذلك تخفيف من ربكم ورحمة ) أشار بذلك إلى ما شرعه تعالى من العفو والدية ، إذ أهل التوراة كان مشروعهم القصاص فقط ، وأهل الإنجيل مشروعهم العفو فقط ، وقيل : لم يكن العفو في أمة قبل هذه الأمة ، وقد تقدم طرق من هذا النقل ، وهذه الأمة خيرت بين القصاص وبين العفو والدية ، وكان العفو والدية تخفيفا من الله ، إذ فيه انتفاع الولي بالدية ، وحصول الأجر بالعفو واستبقاء مهجة القاتل ، وبذل ما سوى النفس هين في استبقائها ، وأضاف هذا التخفيف إلى الرب : لأنه المصلح لأحوال عبيده ، الناظر لهم في تحصيل ما فيه سعادتهم الدينية والدنيوية ، وعطف ( ورحمة ) على ( تخفيف ) : لأن من استبقى مهجتك بعد استحقاق إتلافها فقد رحمك . وأي رحمة أعظم من ذلك ؟ ولعل القاتل المعفو عنه يستقل من الأعمال الصالحة في المدة التي عاشها بعد استحقاق قتله [ ص: 15 ] ما يمحو به هذه الفعلة الشنعاء ، فمن الرحمة إمهاله لعله يصلح أعماله .

( فمن اعتدى بعد ذلك ) ، أي : من تجاوز شرع الله بعد العقود وأخذ الدية بقتل القاتل بعد سقوط الدم ، أو بقتل غير القاتل ، وكانوا في الجاهلية يفعلون ذلك ، ويقتلون بالواحد الاثنين والثلاثة والعشرة ، وقيل : المعنى : من قتل بعد أخذ الدية ، وقيل : بعد العفو ، وقيل : من أخذ الدية بعد العفو عنها . والأظهر القول الأول لتقدم العفو ، وأخذ المال .

والاعتداء ، وهو تجاوز الحد يشمل ذلك كله . وقال الزمخشري : بعد ذلك التخفيف ، فجعل " ذلك " إشارة إلى التخفيف ، وليس يظهر أن " ذلك " إشارة إلى التخفيف ، وإنما الظاهر ما شرحناه به من العفو وأخذ الدية ، وكون ذلك تخفيفا هو كالعلة لمشروعية العفو وأخذ الدية ، ويحتمل : " من " في قوله : ( فمن اعتدى ) أن تكون شرطية ، وأن تكون موصولة .

( فله عذاب أليم ) ، جواب الشرط ، أو خبر عن الموصول ، وظاهر هذا العذاب أنه في الآخرة : لأن معظم ما ورد من هذه التوعدات إنما هي في الآخرة . وقيل : العذاب الأليم هو في الدنيا ، وهو قتله قصاصا ، قاله عكرمة ، وابن جبير ، والضحاك . وقيل : هو قتله البتة حدا ، ولا يمكن الحاكم الولي من العفو ، قاله عكرمة أيضا ، وقتادة ، والسدي . وقيل : عذابه أن يرد الدية ويبقى إثمه إلى عذاب الآخرة ، قاله الحسن . وقيل : عذابه تمكين الإمام منه يصنع فيه ما يرى ، قاله عمر بن عبد العزيز . ومذهب جماعة من العلماء أنه إذا قتل بعد سقوط الدم هو كمن قتل ابتداء ، إن شاء الولي قتله ، وإن شاء عفا عنه .

التالي السابق


الخدمات العلمية