الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
( وما تفعلوا من خير يعلمه الله ) ، هذه جملة شرطية ، وتقدم الكلام على إعراب نظيرها في قوله : ( ما ننسخ من آية ) ، وخص الخير ، وإن كان تعالى عالما بالخير والشر ، حثا على فعل الخير : ولأن ما سبق من ذكر فرض الحج وهو خير ، ولأن نستبدل بتلك المنهيات أضدادها ، فنستبدل بالرفث الكلام الحسن والفعل الجميل ، والفسوق الطاعة ، والجدال الوفاق ، ولأن يكثر رجاء وجه الله تعالى ، ولأن يكون وعدا بالثواب . وجواب الشرط وهو " يعلمه الله " ، فإما أن يكون عبر عن المجازاة عن فعل الخير بالعلم ، كأنه قيل : يجازكم الله به ، أو يكون ذكر المجازاة بعد ذكر العلم ، أي : يعلمه الله فيثيب عليه ، وفي قوله " وما تفعلوا " التفات ، إذ هو خروج من غيبة إلى خطاب ، وحمل على معنى : من ، إذ هو خروج من إفراد إلى جمع ، وعبر بقوله " تفعلوا " عن ما يصدر عن الإنسان من فعل وقول ونية ، إما تغليبا للفعل ، وإما إطلاقا على القول والاعتقاد لفظ الفعل ، فإنه يقال : أفعال الجوارح ، وأفعال اللسان ، وأفعال القلب ، والضمير في " يعلمه " عائد على " ما " من قوله " وما تفعلوا " ، و " من " في موضع نصب ، ويتعلق بمحذوف . وقد خبط بعض المعربين فقال : إن " من خير " متعلق بـ " تفعلوا " ، وهو في موضع نصب نعتا لمصدر محذوف تقديره : وما تفعلوه فعلا من خير يعلمه الله ، جزم بجواب الشرط ، والهاء في " يعلمه الله " يعود إلى خير ، انتهى قوله . ولولا أنه مسطر في التفسير لما حكيته ، وجهة التخبيط فيه أنه زعم أن " من خير " متعلق بـ " تفعلوا " ، ثم قال : وهو في موضع نصب نعتا لمصدر . فإذا كان كذلك كان العامل فيه محذوفا ، فيناقض هذا القول كون " من " يتعلق بـ " تفعلوا " : لأن " من " حيث تعلقت بـ " تفعلوا " كان العامل غير محذوف ، وقوله : والهاء تعود إلى خير خطأ فاحش : لأن الجملة جواب لجملة شرطية بالاسم ، فالهاء عائدة على الاسم ، أعني : اسم الشرط ، وإذا جعلتها عائدة على الخير عري الجواب عن ضمير يعود على اسم الشرط ، وذلك لا يجوز ، لو قلت من يأتني يخرج خالد ، ولا يقدر ضمير يعود على اسم الشرط ، لم يجز ، بخلاف الشرط إذا كان بالحرف ، فإنه يجوز خلو الجملة من الضمير نحو : إن تأتني يخرج خالد .

( وتزودوا فإن خير الزاد التقوى ) . روي عن ابن عباس أنها نزلت في ناس من اليمن يحجون بغير زاد ، ويقولون : نحن متوكلون بحج بيت الله أفلا يطعمنا ؟ فيتوصلون بالناس ، وربما ظلموا وغصبوا ، فأمروا بالتزود ، وأن لا يظلموا أو يكونوا كلا على الناس . وروي عن ابن عمر قال : إذا أحرموا ومعهم أزودة رموا بها ، واستأنفوا زادا آخر ، فنهوا عن [ ص: 93 ] ذلك ، وأمروا بالتحفظ بالزاد والتزود . فعلى ما روي من سبب نزول هذه الآية ، يكون أمرا بالتزود في الأسفار الدنيوية ، والذي يدل عليه سياق ما قبل هذا الأمر ، وما بعده أن يكون الأمر بالتزود هنا بالنسبة إلى تحصيل الأعمال الصالحة التي تكون له كالزاد إلى سفره للآخرة ، ألا ترى أن قبله : ( وما تفعلوا من خير يعلمه الله ) ، ومعناه الحث والتحريض على فعل الخير الذي يترتب عليه الجزاء في الآخرة ، وبعده ( فإن خير الزاد التقوى ) ، والتقوى في عرف الشرع والقرآن عبارة عن ما يتقى به النار ، ويكون مفعول " تزودوا " محذوفا تقديره ، وتزودوا التقوى ، أو من التقوى ، ولما حذف المفعول أتى بخبر إن ظاهرا ليدل على أن المحذوف هو هذا الظاهر ، ولو لم يحذف المفعول لأتى به مضمرا عائدا على المفعول ، أو كان يأتي ظاهرا تفخيما لذكر التقوى ، وتعظيما لشأنها . وقد قال بعضهم في التزود للآخرة :


إذا أنت لم ترحل بزاد من التقى ولاقيت بعد الموت من قد تزودا     ندمت على أن لا تكون كمثله
وأنك لم ترصد كما كان أرصدا



( وقال بعض عرب الجاهلية ) :


فلو كان حمد يخلد الناس لم يمت     ولكن حمد الناس ليس بمخلد
ولكن منه باقيات وراثة     فأورث بنيك بعضها وتزود
تزود إلى يوم الممات فإنه     وإن كرهته النفس آخر موعد



وصعد سعدون المجنون تلا في مقبرة ، وقد انصرف ناس من جنازة فناداهم :


ألا يا عسكر الأحياء     هذا عسكر الموتى
أجابوا الدعوة الصغرى     وهم منتظرو الكبرى
يحثون على الزاد     ولا زاد سوى التقوى
يقولون لكم جدوا     فهذا غاية الدنيا



وقيل : أمر بالتزود لسفر العبادة والمعاش ، وزاده الطعام والشراب والمركب والمال ، وبالتزود لسفر المعاد ، وزاده تقوى الله تعالى ، وهذا الزاد خير من الزاد الأول لقوله : ( فإن خير الزاد التقوى ) .

فتلخص من هذا كله ثلاثة أقوال ، أحدها : أنه أمر بالتزود في أسفار الدنيا ، فيكون مفعول " تزودوا " ما ينتفعون به ، فإن خير الزاد ما تكفون به وجوهكم من السؤال ، وأنفسكم من الظلم ، وقال البغوي : قال المفسرون : التقوى هنا الكعك والزيت والسويق والتمر والزبيب ، وما يشاكل ذلك من المطعومات . والثاني : أنه أمر بالتزود لسفر الآخرة ، وهو الذي نختاره . والثالث : أنه أمر بالتزود في السفرين ، كأن التقدير : وتزودوا ما تنتفعون به لعاجل سفركم وآجله . وأبعد من ذهب إلى أن المعنى : وتزودوا الرفيق الصالح ، إلا إن عنى به العمل الصالح فلا يبعد : لأنه هو القول الثاني الذي اخترناه . وقال أبو بكر الرازي : احتمل قوله " وتزودوا " الأمرين من زاد الطعام وزاد التقوى ، فوجب الحمل عليهما ، إذ لم تقم دلالة على تخصيص أحد الأمرين ، وذكر التزود من الأعمال الصالحة في الحج : لأنه أحق شيء بالاستكثار من أعمال البر فيه لمضاعفة الثواب عليه ، كما نص على خطر الفسوق ، وإن كان محظورا في غيره تعظيما لحرمة الإحرام ، وإخبارا أنه فيه أعظم مأثما . ثم أخبر أن زاد التقوى خيرهما لبقاء نفعه ودوام ثوابه ، وهذا يدل على بطلان مذهب أهل التصوف ، والذين يسافرون بغير زاد ولا راحلة : لأنه تعالى خاطب بذلك من خاطبه بالحج ، وعلى هذا قال النبي - صلى الله عليه وسلم - حين [ ص: 94 ] سئل عن الاستطاعة ، فقال : " هي الزاد والراحلة " . انتهى كلامه .

ورد عليه بأن الكاملين في باب التوكل لا يطعن عليهم أن سافروا بغير زاد : لأنه صح : ( لو توكلتم على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير ، تغدوا خماصا ، وتروح بطانا ) . وقال تعالى : ( ومن يتوكل على الله فهو حسبه ) ، وقد طوى قوم الأيام بلا غذاء ، وبعضهم اكتفى باليسير من القوت في الأيام ذوات الأعداد ، وبعضهم بالجرع من الماء . وصح من حديث أبي ذر اكتفاؤه بماء زمزم شهرا ، وخرج منها وله عكن ، وأن جماعة من الصحابة اكتفوا أياما كثيرة ، كل واحد منهم بتمرة في اليوم . فأما خرق العادات من دوران الرحى بالطحين ، وامتلاء الفرن بالعجين ، وإن لم يكن هناك طعام ونحو ذلك ، فحكوا وقوع ذلك . وقد شرب سفيان بن عيينة فضلة سفيان الثوري من ماء زمزم فوجدها سويقا ، وقد صح وثبت خرق العوائد لغير الأنبياء - عليهم السلام - فلا يتكرر ذلك إلا من مدع ذلك ، وليس هو على طريق الاستقامة ككثير ممن شاهدناهم يدعون ، ويدعى ذلك لهم .

( واتقون ) ، هذا أمر بخوف الله تعالى ، ولما تقدم ما يدل على اجتناب أشياء في الحج ، وأمروا بالتزود للمعاد ، وأخبر بالتقوى عن خير الزاد ، ناسب ذلك كله الأمر بالتقوى ، والتحذير من ارتكاب ما تحل به عقوبته ، ثم قال : ( ياأولي الألباب ) تحريكا لامتثال الأمر بالتقوى : لأنه لا يحذر العواقب إلا من كان ذا لب ، فهو الذي تقوم عليه حجة الله ، وهو القابل للأمر والنهي ، وإذا كان ذو اللب لا يتقي الله ، فكأنه لا لب له ، وقد تقدم الكلام على مثل هذا النداء في قوله : ( ولكم في القصاص حياة ياأولي الألباب ) ، فأغنى عن إعادته . والظاهر من اللب أنه لب مناط التكليف فيكون عاما ، لا اللب الذي هو مكتسب بالتجارب ، فيكون خاصا : لأن المأمور باتقاء الله هم جميع المكلفين .

التالي السابق


الخدمات العلمية