الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
( ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس ) ، صح عن عائشة قالت : كان الحمس هم الذين أنزل الله تعالى فيهم : ( ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس ) ، رجعوا إلى عرفات ، وفي ( الجامع ) للترمذي عن عائشة قالت : كانت قريش ومن على دينها ، وهم الحمس ، يقفون بالمزدلفة يقولون نحن قطين الله ، وكان من سواهم يقفون بعرفة ، فأنزل الله : ( ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس ) . قال أبو عيسى : هذا حديث حسن صحيح . وروى محمد بن جبير بن مطعم ، عن أبيه قال : خرجت في طلب بعير بعرفة ، فرأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قائما بعرفة مع الناس قبل أن يبعث ، فقلت : والله إن هذا من الحمس ، فما شأنه واقفا هاهنا مع الناس ؟ وكان وقوف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعرفة إلهاما من الله تعالى وتوفيقا إلى ما هو شرع الله ومراده ، وكانت قريش قد ابتدعت أشياء لا يأقطون الأقط ، ولا يسلئون السمن وهم محرمون ، ولا يدخلون بيتا من شعر ، ولا يستظلون إلا في بيوت الأدم ، ولا يأكلون حتى يخرجوا إلى الحل وهم حرم ، ولا يطوف القادم إلى البيت إلا في ثياب الحمس ، ومن لم يجد ذلك طاف عريانا ، فإن طاف بثيابه ألقاها فلا يأخذها أبدا ، لا هو ولا غيره ، وتسمي العرب تلك الثياب اللقي ، وسمحوا للمرأة أن تطوف وعليها درعها ، وكانت قبل تطوف عريانة وعلى فرجها نسعة ، حتى قالت امرأة منهم :

[ ص: 99 ]

اليوم يبدو بعضه أو كله وما بدا منه فلا أحله



فلما أنزل الله : ( ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس ) ، وأنزل : ( خذوا زينتكم عند كل مسجد وكلوا واشربوا ولا تسرفوا ) ، أباح لهم ما حرموا على أنفسهم من الوقوف بعرفة ، ومن الأكل والشرب واللباس ، فعلى هذا الذي نقل من سبب النزول ، فيكون المخاطبون بالإفاضة هنا قريشا وحلفاءها ، ومن دان بدينها ، وهم الحمس . وهذا قول الجمهور . وقيل : الخطاب عام لقريش وغيرها . والإفاضة المأمور بها هي من عرفات ، إلا أن " ثم " على هذا ، تخرج عن أصل موضوعها العربي من أنها تقتضي التراخي في زمان الفعل السابق ، وقد قال : ( فإذا أفضتم من عرفات فاذكروا الله عند المشعر الحرام واذكروه كما هداكم ثم أفيضوا ) ، الإفاضة قد تقدمت ، وأمروا بالذكر إذا أفاضوا ، فكيف يؤمر بها بعد ذلك بـ " ثم " التي تقتضي التراخي لالافي الزمان ؟ وأجيب عن هذا بوجوه .

أحدها : أن ذلك من الترتيب الذي في الذكر ، لا من الترتيب في الزمان الواقع فيه الأفعال ، وحسن هذا أن الإفاضة السابقة لم يكن مأمورا بها ، إنما كان المأمور به ذكر الله إذا فعلت ، والأمر بالذكر عند فعلها لا يدل على الأمر بها ، ألا ترى أنك تقول : إذا ضربك زيد فاضربه ؟ فلا يكون زيد مأمورا بالضرب ، فكأنه قيل : ثم لتكن تلك الإفاضة من عرفات لا من المزدلفة كما تفعله الحمس ، وزعم بعضهم أن " ثم " هنا بمعنى الواو ، لا تدل على ترتيب ، كأنه قال : وأفيضوا من حيث أفاض الناس ، فهي لعطف كلام على كلام مقتطع من الأول ، وقد جوز بعض النحويين أن " ثم " تأتي بمعنى الواو ، فلا ترتيب . وقد حمل بعض الناس " ثم " هنا على أصلها من الترتيب بأن جعل في الكلام تقديما وتأخيرا ، فجعل : ( ثم أفيضوا ) معطوفا على قوله : ( واتقون يا أولي الألباب ) ، كأنه قيل : ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس ، واستغفروا الله إن الله غفور رحيم ، ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم ، فإذا أفضتم من عرفات ، وعلى هذا تكون هذه الإفاضة المشروط بها ، تلك الإفاضة المأمور بها ، لكن التقديم والتأخير هو مما يختص بالضرورة ، وننزه القرآن عن حمله عليه ، وقد أمكن ذلك بجعل " ثم " للترتيب في الذكر لا في الفعل الواقع بالنسبة للزمان ، أو بجعل الإفاضة المأمور بها هنا غير الإفاضة المشروط بها ، وتكون هذه الإفاضة من جمع إلى منى ، والمخاطبون بقوله : ( ثم أفيضوا ) ، جميع المسلمين ، وقد قال بهذا الضحاك ، وقوم معه ، ورجحه الطبري ، وهو يقتضيه ظاهر القرآن . وقال الزمخشري فإن ( قلت ) : فكيف موقع " ثم " ؟ ( قلت ) : نحو موقعها في قولك أحسن إلى الناس ثم لا تحسن إلى غير كريم ، يأتي " ثم " لتفاوت ما بين الإحسان إلى الكريم ، والإحسان إلى غيره وبعد ما بينهما ، فكذلك حين أمرهم بالذكر عند الإفاضة من عرفات ، قال : ثم أفيضوا ، لتفاوت ما بين الإفاضتين ، وأن إحداهما صواب والثانية خطأ ، انتهى كلامه .

وليست الآية كالمثال الذي مثله ، وحاصل ما ذكر أن " ثم " تسلب الترتيب ، وأنها لها معنى غيره سماه بالتفاوت والبعد لما بعدها مما قبلها ، ولم يجز في الآية أيضا ذكر الإفاضة الخطأ ، فيكون " ثم " في قوله " ثم أفيضوا " جاءت لبعد ما بين الإفاضتين وتفاوتهما ، ولا نعلم أحدا سبقه إلى إثبات هذا المعنى لـ " ثم " .

التالي السابق


الخدمات العلمية