الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
( ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض ) قرأ نافع ويعقوب وسهل : ( ولولا دفاع ) وهو مصدر دفع ، نحو : كتب كتابا ، أو مصدر دافع بمعنى دفع . قال أبو ذؤيب :


ولقد حرصت بأن أدافع عنهم فإذا المنية أقبلت لا تدفع



وقرأ الباقون : ( دفع ) مصدر دفع ، كضرب ضربا . والمدفوع بهم جنود المسلمين ، والمدفوعون المشركون ، و ( لفسدت الأرض ) بقتل المؤمنين وتخريب البلاد والمساجد ، قال معناه ابن عباس وجماعة من المفسرين : أو الأبدال وهم أربعون ، كلما مات واحد أقام الله واحدا بدل آخر ، وعند القيامة يموتون كلهم : اثنان وعشرون بالشام ، وثمانية عشر بالعراق .

وروي حديث الأبدال عن علي وأبي الدرداء ، ورفعا ذلك إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - . أو المذكورون في حديث : " لولا عباد ركع ، وأطفال رضع وبهائم رتع لصب عليكم العذاب صبا " أو من يصلي ومن يزكي ومن يصوم يدفع بهم عمن لا يفعل ذلك ، أو المؤمن يدفع به عن الكافر كما يبتلى المؤمن بالكافر ، قاله قتادة ، أو الرجل الصالح يدفع به عن ما به من أهل بيته وجيرانه البلاء ، أو الشهود الذين يستخرج بهم الحقوق ، قاله الثوري أو السلطان أو الظالم يدفع يد الظالم ، أو داود دفع به عن طالوت ولولا ذلك غلبت العمالقة على بني إسرائيل ، فيكون ( الناس ) عاما والمراد الخصوص . والذي يظهر أن المدفوع بهم هم المؤمنون ، ولولا ذلك لفسدت الأرض ؛ لأن الكفر كان يطبقها ويتمادى في جميع أقطارها ، ولكنه تعالى لا يخلي زمانا من قائم يقوم بالحق ويدعو إلى الله تعالى ، إلى أن جعل ذلك في أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - .

وقال الزمخشري : لولا أن الله يدفع بعض الناس ببعض ، ويكف بهم فسادهم ، لغلب المفسدون ، وفسدت الأرض وبطلت منافعها ، وتعطلت مصالحها من الحرث والنسل وسائر ما يعمر الأرض ، انتهى . وهو كلام حسن ، والذي قبله كلام ابن عطية . والمصدر الذي هو دفع أو دفاع مضاف إلى الفاعل ، و ( بعضهم ) [ ص: 270 ] بدل من الناس ، وهو بدل بعض من كل ، والباء في ( ببعض ) متعلق بالمصدر ، والباء فيه للتعدية فهو مفعول ثان للمصدر ؛ لأن ( دفع ) يتعدى إلى واحد ثم عدي إلى ثان بالباء ، وأصل التعدية بالباء ، أن يكون ذلك في الفعل اللازم نحو : ( لذهب بسمعهم ) فإذا كان متعديا فقياسه أن يعدى بالهمزة ، تقول : طعم زيد اللحم ، ثم تقول : أطعمت زيدا اللحم ، ولا يجوز أن تقول : طعمت زيدا باللحم ، وإنما جاء ذلك قليلا بحيث لا ينقاس ، من ذلك : دفع ، وصك ، تقول : صك الحجر الحجر ، وتقول : صككت الحجر بالحجر ، أي : جعلته يصكه . وكذلك قالوا : صككت الحجرين أحدهما بالآخر نظير : ( دفع الله الناس بعضهم ببعض ) فالباء للتعدية كالهمزة .

قال سيبويه ، وقد ذكر التعدية بالهمزة والتضعيف ما نصه : وعلى ذلك دفعت الناس بعضهم ببعض ، على حد قولك : ألزمت ، كأنك قلت في التمثيل : أدفعت ، كما أنك تقول : أذهبت به ، وأذهبته من عندنا ، وأخرجته ، وخرجت به معك ، ثم قال سيبويه : صككت الحجرين أحدهما بالآخر على أنه مفعول من قولك : اصطك الحجران أحدهما بالآخر ، ومثل ذلك : ولولا دفاع الله الناس بعضهم ببعض ، انتهى كلام سيبويه ، ولا يبعد في قولك : دفعت بعض الناس ببعض ، أن تكون الباء للآلة ، فلا يكون المجرور بها مفعولا به في المعنى ، بل الذي يكون مفعولا به هو المنصوب ، وعلى قول سيبويه يكون المنصوب مفعولا به في اللفظ فاعلا من جهة المعنى وعلى أن تكون الباء للآلة يصح نسبة الفعل إليها على سبيل المجاز ، كما أنك تقول في : كتبت بالقلم ، كتبت القلم .

وأسند الفساد إلى الأرض حقيقة : بالخراب وتعطيل المنافع ، أو مجازا : والمراد أهلها .

التالي السابق


الخدمات العلمية