الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
( وصد عن سبيل الله وكفر به والمسجد الحرام وإخراج أهله منه أكبر عند الله والفتنة أكبر من القتل ) ، هذه جملة من مبتدإ وخبر معطوفة على قوله تعالى : " فيه كبير " ، وكلا الجملتين مقولة ، أي : قل لهم قتال في الشهر الحرام إثم كبير ، وقل لهم صد عن كذا إلى آخره أكبر من القتال ، ويحتمل أن يكون مقطوعا من القول ، بل إخبار مجرد عن أن الصد عن سبيل الله وكذا وكذا ؛ أكبر ، والمعنى : إنكم يا كفار قريش تستعظمون منا القتال في الشهر الحرام ، وما تفعلون أنتم من الصد عن سبيل الله لمن أراد الإسلام ، ومن كفركم بالله ، وإخراجكم أهل المسجد منه ، كما فعلوا برسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه ؛ أكبر جرما عند الله مما فعلته السرية من القتال في الشهر الحرام ، على سبيل البناء على الظن . وتقدم لنا أن هذه الجملة من مبتدإ وخبر ، فالمبتدأ : صد ، وهو نكرة مقيدة بالجار والمجرور ، فساغ الابتداء ، وهو مصدر محذوف فاعله ومفعوله للعلم بهما ، أي : وصدكم المسلمين عن سبيل الله ، وسبيل الله الإسلام ، قاله مقاتل ، أو " الحج " ؛ لأنهم صدوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن مكة ، قاله ابن عباس ، والسدي عن أشياخه ، أو " الهجرة " صدوا المسلمين عنها . و " كفر به " معطوف على " وصد " ، وهو أيضا مصدر لازم حذف فاعله ، تقديره : وكفركم به ، والضمير في " به " يعود على السبيل ؛ لأنه هو المحدث عنه بأنه صد عنه ، والمعنى : وكفر بسبيل الله ، وهو دين الله وشريعته ، وقيل : يعود [ ص: 147 ] الضمير في " به " على الله تعالى ، قاله الحوفي ، والمسجد الحرام : هو الكعبة ، وقرئ شاذا " والمسجد الحرام " بالرفع ، ووجهه أنه عطفه على قوله " وكفر به " ويكون على حذف مضاف ، أي : وكفر بالمسجد الحرام ، ثم حذف الباء وأضاف الكفر إلى المسجد ، ثم حذف المضاف وأقام المضاف إليه مقامه ، فيؤول إلى معنى قراءة الجمهور من خفض المسجد الحرام على أحسن التأويلات التي نذكرها ، فنقول : اختلفوا فيما عطف عليه " والمسجد " ، فقال ابن عطية ، والزمخشري ، وتبعا في ذلك المبرد : هو معطوف على " سبيل الله " ، قال ابن عطية : وهذا هو الصحيح ، ورد هذا القول بأنه إذا كان معطوفا على " سبيل الله " كان متعلقا بقوله " وصد " ؛ إذ التقدير : وصد عن سبيل الله وعن المسجد الحرام ، فهو من تمام عمل المصدر ، وقد فصل بينهما بقوله " وكفر به " ولا يجوز أن يفصل بين الصلة والموصول ، وقيل : معطوف على الشهر الحرام ، وضعف هذا بأن القوم لم يسألوا عن الشهر الحرام ؛ إذ لم يشكوا في تعظيمه ، وإنما سألوا عن القتال في الشهر الحرام ؛ لأنه وقع منهم ولم يشعروا بدخوله ، فخافوا من الإثم ، وكان المشركون عيروهم بذلك . انتهى . ما ضعف به هذا القول ، وعلى هذا التخريج يكون السؤال عن شيئين : أحدهما : عن قتال في الشهر الحرام ، والآخر : عن المسجد الحرام والمعطوف على الشهر الحرام ، والشهر الحرام لم يسأل عنه لذاته ، إنما سئل عن القتال فيه ، فكذلك المعطوف عليه ، يكون السؤال عن القتال فيه ، فيصير المعنى : يسألونك عن قتال في الشهر الحرام ، وفي المسجد الحرام ، فأجيبوا : بأن القتال في الشهر الحرام كبير ، وصد عن سبيل الله ، وكفر به ، ويكون : وصد عن سبيل الله - على هذا - معطوفا على قوله " كبير " أي : القتال في الشهر الحرام أخبر عنه بأنه إثم كبير ، وبأنه صد عن سبيل الله وكفر به .

ويحتمل أن يكون " وصد " مبتدأ ، وخبره محذوف لدلالة خبر " قتال " عليه . التقدير : وصد عن سبيل الله وكفر به كبير ، كما تقول : زيد قائم وعمرو ، أي : وعمرو قائم ، وأجيبوا بأن القتال في المسجد الحرام ، إخراج أهله منه أكبر عند الله من القتال فيه ، وكونه معطوفا على الشهر الحرام متكلف جدا ، ويبعد عنه نظم القرآن ، والتركيب الفصيح ، ويتعلق كما قيل بفعل محذوف دل عليه المصدر ، تقديره : ويصدون عن المسجد الحرام ، كما قال تعالى : ( هم الذين كفروا وصدوكم عن المسجد الحرام ) ، قال بعضهم : وهذا هو الجيد ، يعني من التخاريج التي يخرج عليه . والمسجد الحرام ، وما ذهب إليه غير جيد ؛ لأن فيه الجر بإضمار حرف الجر ، وهو لا يجوز في مثل هذا إلا في الضرورة ، نحو قوله :


أشارت كليب بالأكف الأصابع



أي : إلى كليب . وقيل : هو معطوف على الضمير في قوله " وكفر به " أي : وبالمسجد الحرام ، قاله الفراء ، ورد بأن هذا لا يجوز إلا بإعادة الجار ، وذلك على مذهب البصريين .

ونقول : العطف المضمر المجرور فيه مذاهب : أحدها : أنه لا يجوز إلا بإعادة الجار إلا في الضرورة ، فإنه يجوز بغير إعادة الجار فيها ، وهذا مذهب جمهور البصريين . الثاني : أنه يجوز ذلك في الكلام ، وهو مذهب الكوفيين ، ويونس ، وأبي الحسن ، والأستاذ أبي علي الشلوبين . الثالث : أنه يجوز ذلك في الكلام إن أكد الضمير ، وإلا لم يجز في الكلام ، نحو : مررت بك نفسك وزيد ، وهذا مذهب الجرمي . والذي نختاره أن يجوز ذلك في الكلام مطلقا ؛ لأن السماع يعضده ، والقياس يقويه ؛ أما السماع فما روي من قول العرب : ما فيها غيره وفرسه ، بجر الفرس عطفا على الضمير في غيره ، والتقدير : ما فيها غيره وغير فرسه ، والقراءة الثانية في السبعة : ( تساءلون به والأرحام ) ، أي : وبالأرحام ، وتأويلها على غير العطف على الضمير ، مما يخرج الكلام عن الفصاحة ، فلا يلتفت إلى التأويل . قرأها كذلك ابن عباس ، والحسن ، ومجاهد ، وقتادة ، والنخعي ، ويحيى بن وثاب ، والأعمش ، وأبو رزين ، وحمزة . ومن ادعى اللحن فيها أو الغلط على حمزة فقد كذب ، وقد ورد من ذلك في أشعار العرب كثير يخرج عن [ ص: 148 ] أن يجعل ذلك ضرورة ، فمنه قول الشاعر :


نعلق في مثل السواري سيوفنا     فما بينها والأرض غوط نفانف



وقال آخر :


هلا سألت بذي الجماجم عنهم     وأبي نعيم ذي اللواء المحرق



وقال آخر :


بنا أبدا لا غيرنا يدرك المنى     وتكشف غماء الخطوب الفوادح



وقال آخر :


إذا أوقدوا نارا لحرب عدوهم     فقد خاب من يصلى بها وسعيرها



وقال آخر :


لو كان لي وزهير ثالث وردت     من الحمام عدانا شر مورود



وقال رجل من طيئ :


إذا بنا ، بل أنيسان ، اتقت فئة     ظلت مؤمنة ممن تعاديها



وقال العباس بن مرداس :


أكر على الكتيبة لا أبالي     أحتفي كان فيها أم سواها



وأنشد سيبويه - رحمه الله :


فاليوم قد بت تهجونا وتشتمنا     فاذهب فما بك والأيام من عجب



وقال آخر :


أبك آية بي أو مصدر     من حمر الجلة جآب جسور



فأنت ترى هذا السماع وكثرته ، وتصرف العرب في حرف العطف ، فتارة عطفت بالواو ، وتارة بأو ، وتارة ببل ، وتارة بأم ، وتارة بلا ، وكل هذا التصرف يدل على الجواز ، وإن كان الأكثر أن يعاد الجار كقوله ، تعالى : ( وعليها وعلى الفلك تحملون ) ، ( فقال لها وللأرض ائتيا طوعا أو كرها ) ، ( قل الله ينجيكم منها ومن كل كرب ) ، وقد خرج على العطف بغير إعادة الجار قوله : ( ومن لستم له برازقين ) عطفا على قوله : ( لكم فيها معايش ) ، أي : ولمن ، وقوله : ( وما يتلى عليكم ) عطفا على الضمير في قوله " فيهن " ، أي : وفيما يتلى عليكم .

وأما القياس فهو أنه كما يجوز أن يبدل منه ويؤكد من غير إعادة جار ، كذلك يجوز أن يعطف عليه من غير إعادة جار ، ومن احتج للمنع بأن الضمير كالتنوين ، فكان ينبغي أن لا يجوز العطف عليه إلا مع الإعادة ؛ لأن التنوين لا يعطف عليه بوجه ، وإذا تقرر أن العطف بغير إعادة الجار ثابت من كلام العرب في نثرها ونظمها ، كان يخرج عطف : والمسجد الحرام ، على الضمير في " به " أرجح ، بل هو متعين ؛ لأن وصف الكلام ، وفصاحة التركيب تقتضي ذلك . " وإخراج أهله " ، معطوف على المصدر قبله ، وهو مصدر مضاف للمفعول ، التقدير : وإخراجكم أهله ، والضمير في " أهله " عائد على " المسجد الحرام " ، وجعل المؤمنين أهله لأنهم القائمون بحقوقه ، أو لأنهم يصيرون أهله في العاقبة ، ولم يجعل المقيمين من الكفار ب مكة أهله لأن بقاءهم عارض يزول ، كما قال تعالى : ( وما كانوا أولياءه إن أولياؤه إلا المتقون ) ، و " منه " متعلق بإخراج ، والضمير في " منه " عائد على المسجد الحرام ، وقيل : عائد على " سبيل الله " وهو الإسلام ، والأول أظهر . و " أكبر " خبر عن المبتدإ الذي هو " وصد " وما عطف عليه ، ويحتمل أن يكون خبرا عن المجموع ، ويحتمل أن يكون خبرا عنها باعتبار كل واحد واحد ، كما تقول : زيد وعمرو وبكر أفضل من خالد ، تريد : كل واحد منهم أفضل [ ص: 149 ] من خالد ، وهذا الظاهر لا المجموع ، وإفراد الخبر لأنه أفعل تفضيل مستعمل بمن الداخلة على المفضول في التقدير ، وتقديره : أكبر من القتال في الشهر الحرام ، فحذف للعلم به . وقيل : " وصد " مبتدأ ، و " كفر " معطوف عليه ، وخبرهما محذوف لدلالة خبر وإخراج " عليه . والتقدير : وصد عن سبيل الله وكفر به والمسجد الحرام أكبر ، ولا يحتاج إلى هذا التقدير ؛ لأنا قد بينا كون " أكبر " خبرا عن الثلاثة . و " عند الله " منصوب بأكبر ، ولا يراد بـ " عند " المكان بل ذلك مجاز . وذكر ابن عطية ، والسجاوندي عن الفراء أنه قال : " وصد " عطف على " كبير " ، قال ابن عطية : وذلك خطأ ؛ لأن المعنى يسوق إلى أن قوله " وكفر به " عطف أيضا على " كبير " ، ويجيء من ذلك أن إخراج أهل المسجد منه أكبر من الكفر عند الله ، وهذا بين فساده . انتهى كلام ابن عطية ، وليس كما ذكر ، ولا يتعين ما قاله من أن " وكفر به " عطف على " كبير " ؛ إذ يحتمل أن يكون الكلام قد تم عند قوله " وصد عن سبيل الله " ، ويكون قد أخبر عن القتال في الشهر الحرام بخبرين : أحدهما : أنه كبير ، والثاني : أنه صد عن سبيل الله ، ثم ابتدأ فقال : والكفر بالله ، وبالمسجد الحرام ، وإخراج أهله منه أكبر عند الله من القتال الذي هو كبير ، وهو صد عن سبيل الله . وهذا معنى سائغ حسن ، ولا شك أن الكفر بالله وما عطف عليه أكبر من القتال المذكور . وقوله : ويجيء من ذلك أن إخراج أهل المسجد منه أكبر من الكفر عند الله - وهذا بين فساده - ليس بكلام مخلص ؛ لأنه لا يجيء منه ما ذكر إلا بتكلف بعيد ، بل يجيء منه أن إخراج أهل المسجد منه أكبر عند الله من القتال المخبر عنه بأنه كبير ، وبأنه صد عن سبيل الله ، فالمحكوم عليه بالأكبرية هو الإخراج ، والمفضول فيها هو القتال لا الكفر والفتنة ، أي : الكفر والشرك ، قاله ابن عمر ، وابن عباس ، ومجاهد ، وابن جبير ، وقتادة وغيرهم .

أو التعذيب الحاصل للمؤمنين ليرجعوا عن الإسلام ، فهي أكبر حرما من القتل ، والمعنى عند جمهور المفسرين أن الفتنة التي كانت تفتن المسلمين عن دينهم حتى يهلكوا أشد اجتراما من قتلهم إياكم في المسجد الحرام . وقيل : المعنى : والفتنة أشد من أن لو قتلوا ذلك المفتون ، أي فعلكم بكل إنسان أشد من فعلنا ؛ لأن الفتنة ألم متجدد ، والقتل ألم منقض . ومن فسر الفتنة بالكفر كان المعنى عنده : وكفركم أشد من قتلنا أولئك ، وصرح هنا بالمفضول ، وهو قوله " من القتل " ، ولم يحذف ؛ لأنه لا دليل على حذفه ، بخلاف قوله " أكبر عند الله " فإنه تقدم ذكر المفضول عليه وهو " القتال " وقال عبد الله بن جحش في هذه القصة شعرا :


تعدون قتلا في الحرام عظيمة     وأعظم منها لو يرى الرشد راشد
صدودكم عما يقول محمد     وكفر به والله راء وشاهد
وإخراجكم من مسجد الله رحله     لئلا يرى لله في البيت ساجد
فإنا وإن عيرتمونا بقتلة     وأرجف بالإسلام باغ وحاسد
سقينا من ابن الحضرمي رماحنا     بنخلة لما أوقد الحرب واقد
دما وابن عبد الله عثمان بيننا     ينازعه غل من القد عاند



التالي السابق


الخدمات العلمية