الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
( والله أعلم بما وضعت ) قرأ ابن عامر ، وأبو بكر ، ويعقوب : بضم التاء ، ويكون ذلك وما بعده من كلام أم مريم ، وكأنها خاطبت نفسها بقولها : والله أعلم . ولم تأت على لفظ : رب ، إذ لو أتت على لفظه ، لقالت : وأنت أعلم بما وضعت . ولكن خاطبت نفسها على سبيل التسلية عن الذكر ، وأن علم الله وسابق قدرته وحكمته ، يحمل ذلك على عدم التحسر والتحذر على ما فاتني من المقصد ، إذ مراده ينبغي أن يكون المراد ، وليس الذكر الذي طلبته ورجوته مثل الأنثى التي علمها وأرادها وقضى بها . ولعل هذه الأنثى تكون خيرا من الذكر ، إذ أرادها الله ، سلت بذلك نفسها .

وتكون الألف واللام في " الذكر " ، للعهد فيكون مقصودها ترجيح هذه الأنثى التي هي موهوبة الله على ما كان قد رجت من أنه يكون ذكرا ، ويحتمل أن يكون مقصودها ، أنه ليس كالأنثى في الفضل والدرجة والمزية ؛ لأن الذكر يصلح للتحرير ، والاستمرار على خدمة موضع العبادة ، ولأنه أقوى على الخدمة ، ولا يلحقه عيب في الخدمة والاختلاط بالناس ولا تهمة . قال ابن عطية : كالأنثى ، في امتناع نذره إذ الأنثى تحيض ولا تصلح لصحبة الرهبان ؟ قاله قتادة ، والربيع ، والسدي ، وعكرمة ، وغيرهم . وبدأت بذكر الأهم في نفسها ، وإلا فسياق الكلام أن تقول : وليست الأنثى كالذكر ، فتضع حرف النفي مع الشيء الذي عندها ، وانتفت عنه صفات الكمال للغرض المراد انتهى . وعلى هذا الاحتمال تكون الألف واللام في : " الذكر " ، للجنس . وقرأ باقي السبعة : بما وضعت ، بتاء التأنيث الساكنة ، على أنه إخبار من الله بأنه أعلم بالذي وضعته . أي : بحاله ، وما يؤول إليه أمر هذه الأنثى ، فإن قولها : وضعتها أنثى ، يدل على أنها لم تعلم من حالها إلا على هذا القدر من كون هذه النسمة جاءت أنثى لا تصلح للتحرير ، فأخبر تعالى أنه أعلم بهذه الموضوعة ، فأتى بصيغة التفضيل المقتضية للعلم بتفاصيل الأحوال ، وذلك على سبيل التعظيم لهذه الموضوعة ، والإعلام بما علق بها وبابنها من عظيم الأمور ، إذ جعلها وابنها آية للعالمين . ووالدتها جاهلة بذلك لا تعلم منه شيئا . وقرأ ابن عباس : بما وضعت ، بكسر تاء الخطاب ، خاطبها الله بذلك أي : إنك لا تعلمين قدر هذه الموهوبة ، وما علمه الله تعالى من عظم شأنها وعلو قدرها . وما : موصولة بمعنى الذي أو التي ، وأتى بلفظ ما ، كما في قوله : ( نذرت لك ما في بطني ) والعائد عليها محذوف على كل قراءة . ( وإني سميتها مريم ) مريم في لغتهم معناه : العابدة ، أرادت بهذه التسمية التفاؤل لها بالخير ، والتقرب إلى الله - تعالى - ، والتضرع إليه بأن يكون فعلها مطابقا لاسمها ، وأن تصدق فيها ظنها بها . ألا ترى إلى إعاذتها بالله ، وإعاذة ذريتها من الشيطان ؟ وخاطبت الله بهذا الكلام لترتب الاستعاذة عليه ، واستبدادها بالتسمية يدل على أن أباها عمران كان قد مات ، كما نقل أنه مات وهي حامل ، على أنه يحتمل من حيث هي أنثى أن تستبد الأم [ ص: 440 ] بالتسمية لكراهة الرجال البنات ، وفي الآية تسمية الطفل قرب الولادة ، وفي الحديث : " ولد لي الليلة مولود فسميته باسم أبي إبراهيم " . وفي الحديث أنه : " يعق عن المولود في السابع ويسمى " .

وهذه الجملة معطوفة على ما قبلها من كلامها ، وهي كلها داخلة تحت القول على قراءة من قرأ : بما وضعت ، بضم التاء . وأما من قرأ : بما وضعت ، بسكون التاء ، أو بالكسر . فقال الزمخشري : هي معطوفة على : إني وضعتها أنثى ، وما بينهما جملتان معترضان ، كقوله : ( وإنه لقسم لو تعلمون عظيم ) انتهى كلامه . ولا يتعين ما ذكر من أنهما جملتان معترضتان ، لأنه يحتمل أن يكونه ( وليس الذكر كالأنثى ) في هذه القراءة من كلامها ، ويكون المعترض جملة واحدة ، كما كان من كلامها في قراءة من قرأ : وضعت ، بضم التاء ، بل ينبغي أن يكون هذا المتعين لثبوت كونه من كلامها في هذه القراءة ; لأن في اعتراض جملتين خلافا لمذهب أبي علي : أنه لا يعترض جملتان وقد تقدم لنا الكلام على ذلك . وأيضا تشبيهه هاتين الجملتين اللتين اعترض بهما بين المعطوف والمعطوف عليه على زعمه بقوله : ( وإنه لقسم لو تعلمون عظيم ) ليس تشبيها مطابقا للآية ، لأنه لم يعترض جملتان بين طالب ومطلوب ، بل اعترض بين القسم الذي هو : ( فلا أقسم بمواقع النجوم ) وجوابه الذي هو : ( إنه لقرآن كريم ) بجملة واحدة وهي قوله : ( وإنه لقسم لو تعلمون عظيم ) لكنه جاء في جملة الاعتراض بين بعض أجزائه وبعض ، اعتراض بجملة ، وهي قوله : ( لو تعلمون ) اعترض به بين المنعوت الذي هو : " لقسم " ، وبين نعته الذي هو : " عظيم " ، فهذا اعتراض في اعتراض ، فليس فصلا بجملتي اعتراض لقوله والله أعلم : ( بما وضعت وليس الذكر كالأنثى ) وسمى من الأفعال التي تتعدى إلى واحد بنفسها ، وإلى آخر بحرف الجر ، ويجوز حذفه ، وإثباته هو الأصل ، يقول سميت ابني بزيد ، وسميته زيدا . قال :


وسميت كعبا بشر العظام وكان أبوك يسمى الجعل



أي : وسميت بكعب ، ويسمى : بالجعل ، وهو باب مقصور على السماع ، وفيه خلاف عن الأخفش الصغير ، وتحرير ذلك في علم النحو .

( وإني أعيذها بك وذريتها من الشيطان الرجيم ) أتى خبر إن ، مضارعا وهو : أعيذها ; لأن مقصودها ديمومة الاستعاذة ، والتكرار بخلاف : وضعتها ، وسميتها ، فإنهما ماضيان قد انقطعا ، وقدمت ذكر المعاذ به على المعطوف على الضمير للاهتمام به ، ثم استدركت بعد ذلك ذكر ذريتها ، ومناجاتها الله بالخطاب السابق ، إنما هو وسيلة إلى هذه الاستعاذة ، كما يقدم الإنسان بين يدي مقصوده ما يستنزل به إحسان من يقصده ، ثم يأتي بعد ذلك بالمقصود ، وورد في الحديث ، من رواية أبي هريرة : " كل مولود من بني آدم له طعنة من الشيطان ، وبها يستهل الصبي ، إلا ما كان من مريم ابنة عمران وابنها ، فإن أمها قالت حين وضعتها : وإني أعيذها بك وذريتها من الشيطان الرجيم . فضرب بينهما حجاب فطعن الشيطان في الحجاب " .

وقد اختلفت ألفاظ هذا الحديث من طرق ، والمعنى واحد . وطعن القاضي عبد الجبار في هذا الحديث ، قال : لأنه خبر واحد على خلاف الدليل ، فوجب رده ، وإنما [ ص: 441 ] كان على خلاف الدليل ; لأن الشيطان إنما يدعو إلى الشر من يعرف الشر والخير ، والصبي ليس كذلك ، ولأنه لو تمكن من هذا المس لفعل أكثر من ذلك ، من إهلاك الصالحين وغير ذلك ، لأنه خص فيه مريم وابنها عيسى دون سائر الأنبياء ، ولأنه لو وجد المس لنفي أثره ، ولو نفي لدام الصراخ والبكاء ، فلما لم يكن كذلك علمنا بطلان هذا الحديث . وقال الزمخشري : وما يروى في الحديث : " ما من مولود يولد إلا والشيطان يمسه حين يولد فيستهل صارخا من مس الشيطان إياه إلا مريم وابنها " . فالله أعلم بصحته ، فإن صح فمعناه أن كل مولود يطمع الشيطان في إغوائه إلا مريم وابنها ، فإنهما كانا معصومين . وكذلك كل من كان في صفتهما لقوله : ( ولأغوينهم أجمعين إلا عبادك منهم المخلصين ) واستهلاله صارخا من مسه ، تخييل وتصوير ; لطمعه فيه كأنه يمسه ويضرب بيده عليه ، ويقول : هذا ممن أغويه ، ونحوه من التخييل ، قول ابن الرومي :


لما تؤذن الدنيا به من صروفها     يكون بكاء الطفل ساعة يولد



وأما حقيقة المس والنخس ، كما يتوهم أهل الحشو فكلا ، ولو سلط إبليس على الناس بنخسهم ; لامتلأت الدنيا صراخا وعياطا مما يبلونا به من نخسه انتهى كلامه . وهو جار على طريقة أهل الاعتزال ، وقد مر لنا شيء من الكلام على هذا في قوله : ( كالذي يتخبطه الشيطان من المس ) .

( فتقبلها ربها بقبول حسن ) قال الزجاج : الأصل فتقبلها بتقبل حسن ، ولكن " قبول " محمول على : قبلها قبولا ، يقال : قبل الشيء قبولا ، إذا رضيه ، والقياس فيه الضم : كالدخول والخروج ، ولكنه جاء بالفتح ، وأجاز الفراء والزجاج ، ضم القاف ، ونقلها ابن الأعرابي فقال : قبلته قبولا وقبولا . قال ابن عباس : معناه سلك بها طريق السعداء ، وقال قوم : تكفل بتربيتها والقيام بشأنها . وقال الحسن : معناه لم يعذبها ساعة قط من ليل ولا نهار ، وعلى هذه الأقوال يكون " تقبل " بمعنى " استقبل " ، فيكون " تفعل " بمعنى " استفعل " ، أي : استقبلها ربها ، نحو : تعجلت الشيء فاستعجلته ، وتقصيت الشيء واستقصيته ، من قولهم : استقبل الأمر أي : أخذه بأوله . قال :


وخير الأمر ما استقبلت منه     وليس بأن تتبعه اتباعا



أي : أخذها في أول أمرها حين ولدت . وقيل : المعنى فقبلها أي : رضي بها في النذر ، مكان الذكر في النذر كما نذرت أمها وسنى لها الأمل في ذلك ، وقبل دعاءها في قولها : فتقبل مني إنك أنت السميع العليم ، ولم تقبل أنثى قبل مريم في ذلك ، ويكون : تفعل ، بمعنى الفعل المجرد نحو : تعجب وعجب ، وتبرأ وبرئ . والباء في : " بقبول " ، قيل : زائدة ، ويكون إذ ذاك ينتصب انتصاب المصدر على غير الصدر ، وقيل : ليست بزائدة .

والقبول : اسم لما يقبل به الشيء : كالسعوط واللدود لما يسعط به ويلد ، وهو اختصاصه لها بإقامتها مقام الذكر في النذر ، أو مصدر على تقدير حذف مضاف أي بذي قبول حسن ، أي بأمر ذي قبول حسن ، وهو الاختصاص .

( وأنبتها نباتا حسنا ) عبارة عن حسن النشأة ، والجودة في خلق وخلق ، فأنشأها على الطاعة والعبادة . قال ابن عباس : لما بلغت تسع سنين صامت من النهار ، وقامت الليل حتى أربت على الأحبار . وقيل : لم تجر عليها خطيئة . قالقتادة : حدثنا أنها كانت لا تصيب الذنوب كما يصيب بنو آدم . وقيل : معنى ( وأنبتها نباتا حسنا ) أي : جعل ثمرتها مثل عيسى . وانتصب : نباتا ، على أنه مصدر على غير الصدر ، أو مصدر لفعل محذوف أي : فنبتت نباتا حسنا ، ويقال : القبول : تربيتها على نعت العصمة حتى قالت : ( أعوذ بالرحمن منك إن كنت تقيا ) والنبات الحسن : الاستقامة على الطاعة ، وإيثار رضا الله في جميع الأوقات . ( وكفلها زكريا ) قال قتادة : ضمها إليه . وقال أبو عبيدة : ضمن [ ص: 442 ] القيام بها ، ومن القبول الحسن والنبات الحسن أن جعل تعالى كافلها والقيم بأمرها وحفظها نبيا . أوحى الله إلى داود - عليه السلام : إذا رأيت لي طالبا فكن له خادما .

وقرأ الكوفيون : وكفلها ، بتشديد الفاء ، وباقي السبعة بتخفيفها . وأبي : وأكفلها ، ومجاهد : فتقبلها ؛ بسكون اللام ، ربها ، بالنصب على النداء ، وأنبتها : بكسر الباء ، وسكون التاء ، وكفلها : بكسر الفاء مشددة ، وسكون اللام على الدعاء من أم مريم ، لمريم . وقرأ عبد الله المزني : وكفلها ، بكسر الفاء ، وهي لغة يقال : كفل يكفل وكفل يكفل ، كعلم يعلم . وقرأ حمزة ، والكسائي ، وحفص : " زكريا " ، مقصورا ، وباقي السبعة ممدودا . وتقدم ذكر اللغات فيه .

روي أن حنة حين ولدت مريم لفتها في خرقة ، وحملتها إلى المسجد فوضعتها عند الأحبار أبناء هارون ، وهم في بيت المقدس كالحجبة في الكعبة ، فقالت لهم : دونكم هذه النذيرة فتنافسوا فيها ; لأنها كانت بنت إمامهم ، وصاحب قربانهم ، وكانت بنو ماثان رءوس بني إسرائيل ، وأحبارهم وملوكهم ، فقال لهم زكريا : أنا أحق بها ، عندي خالتها . فقالوا : لا ، حتى نقترع عليها . فانطلقوا ، وكانوا سبعة وعشرين ، إلى نهر . قيل : هو نهر الأردن ، وهو قول الجمهور . وقيل : في عين ماء كانت هناك ، فألقوا فيه أقلامهم ، فارتفع قلم زكريا ، ورسبت أقلامهم فتكفلها . قيل : واسترضع لها . وقال الحسن : لم تلتقم ثديا قط . وقال عكرمة : ألقوا أقلامهم فجرى قلم زكريا عكس جرية الماء ، ومضت أقلامهم مع جرية الماء . وقيل : عامت مع الماء معروضة ، وبقي قلم زكريا واقفا ، كأنما ركز في طين ، قال ابن إسحاق : إن زكريا كان تزوج خالتها ; لأنه وعمران كانا سلفين على أختين ، ولدت امرأة زكريا يحيى ، وولدت امرأة عمران مريم . وقال السدي ، وغيره : كان زكريا تزوج ابنة أخرى لعمران . ويعضد هذا القول ، قول النبي - صلى الله عليه وسلم - في يحيى وعيسى : ابنا الخالة . وقيل : إنما كفلها لأن أمها هلكت ، وكان أبوها قد هلك وهي في بطن أمها . وقيل : كان زكريا ابن عمها ، وكانت أختها تحته . وقال ابن إسحاق : ترعرعت وأصاب بني إسرائيل مجاعة ، فقال لهم زكريا : إني قد عجزت عن إنفاق مريم ، فاقترعوا على من يكفلها ، ففعلوا ، فخرج إليهم رجل يقال له جريج ، فجعل ينفق عليها ، وهذا استهام غير الأول ، هذا المراد منه دفعها للإنفاق عليها ، والأول المراد منه : أخذها ، فعلى هذا القول يكون زكريا قد كفلها من لدن الطفولة دون استهام ، والذي عليه الناس أن زكريا إنما كفلها بالاستهام ، ولم يدل القرآن على أن غير زكريا كفلها ، وكان زكريا أولى بكفالتها ; لأنه من أقربائها من جهة أبيها ، ولأن خالتها أو أختها تحته ، على اختلاف القولين ، ولأنه كان نبيا ، فهو أولى بها لعصمته . وزكريا هو ابن أذن بن مسلم من ولد سليمان بن داود - عليهم السلام - وذكر النقيب أبو البركات الجواني النسابة : أن يحيى بن زكريا ، واليسع ، وإلياس ، والعزير من ولد هارون أخي موسى ، فلا يكون على هذا زكريا من ولد سليمان ، ولا يكون ابن عم مريم ، لأن مريم من ذرية سليمان - عليه السلام ، و سليمان من يهوذا بن يعقوب ، و موسى و هارون بن لاوى بن يعقوب .

قال ابن إسحاق : ضمها إلى خالتها أم يحيى ، حتى إذا شبت ، وبلغت مبلغ النساء ، بنى لها محرابا في المسجد ، وجعل بابه في وسطه لا يرقى إليه إلا بسلم ، مثل باب الكعبة ، ولا يصعد إليها غيره . وقيل : كان يغلق عليها سبعة أبواب إذا خرج . قال مقاتل : كان يغلق عليها الباب ومعه المفتاح ، لا يأمن عليه أحدا ، فإذا حاضت أخرجها إلى منزله تكون مع خالتها أم يحيى أو أختها ، فإذا طهرت ردها إلى بيت المقدس ، وقيل : كانت مطهرة من الحيض .

( كلما دخل عليها زكريا المحراب وجد عندها رزقا ) . قال مجاهد ، والضحاك ، وقتادة ، والسدي : وجد عندها فاكهة الشتاء في الصيف ، وفاكهة الصيف في الشتاء ، وقال الحسن : تكلمت في المهد ، ولم تلقم ثديا قط ، وإنما كانت يأتيها [ ص: 443 ] رزقها من الجنة . والذي ورد في الصحيح أن الذي تكلم في المهد ثلاثة : عيسى ، و صاحب جريج ، وابن المرأة ، وورد من طريق شاذ : صاحب الأخدود . والأغرب أن مريم منهم . وقيل : كان جريج النجار ، واسمه يوسف بن يعقوب ، وكان ابن عم مريم حين كفلها بالقرعة ، وقد ضعف زكريا عن القيام بها ، يأتيها من كسبه بشيء لطيف على قدر وسعه ، فيزكو ذلك الطعام ويكثر ، فيدخل زكريا عليها فيتحقق أنه ليس من وسع جريج ، فيسألها . وهذا يدل على أن ذلك كان بعد أن كبرت ، وهو الأقرب للصواب . وقيل : كانت ترزق من غير رزق بلادهم ، قال ابن عباس : كان عنبا في مكتل ، ولم يكن في تلك البلاد عنب ، وقاله ابن جبير ، ومجاهد ، وقيل : كان بعض الصالحين يأتيها بالرزق .

والذي يدل عليه ظاهر الآية أن الذي كفلها بالتربية هو زكريا لا غيره ، فإن الله تعالى كفاه لما كفلها مؤنة رزقها ، ووضع عنه بحسن التكفل مشقة التكلف . وكلما : تقتضي التكرار ، فيدل على كثرة تعهده وتفقده لأحوالها . ودلت الآية على وجود الرزق عندها كل وقت يدخل عليها ، والمعنى : أنه غذاء يتغذى به لم يعهده عندها ، ولم يوجهه هو . وأبعد من فسر الرزق هنا بأنه فيض كان يأتيها من الله من العلم والحكمة من غير تعليم آدمي ، فسماه رزقا . قال الراغب : واللفظ محتمل ، انتهى . وهذا شبيه بتفسير الباطنية .

( قال يا مريم أنى لك هذا قالت هو من عند الله ) استغرب زكريا وجود الرزق عندها ، وهو لم يكن أتى به ، وتكرر وجوده عندها كلما دخل عليها ، فسأل على سبيل التعجب من وصول الرزق إليها ، وكيف أتى هذا الرزق ؟ وأنى : سؤال عن الكيفية ، وعن المكان ، وعن الزمان ، والأظهر أنه : سؤال عن الجهة ، فكأنه قال : من أي جهة لك هذا الرزق ؟ ولذلك قال أبو عبيدة : معناه من أين ؟ ولا يبعد أن يكون سؤالا عن الكيفية ، أي : كيف تهيأ وصول هذا الرزق إليك ؟ وقال الكميت :


أنى ومن أين أتاك الطرب     من حيث لا صبوة ولا طرب



وجوابها سؤاله بأنه ( من عند الله ) ظاهره أنه لم يأت به آدمي ألبتة ، بل هو رزق يتعهدني به الله - تعالى - . وظاهره أنه كان يسأل كلما وجد عندها رزقا ; لأن من الجائز في الفعل أن يكون هذا الثاني من جهة غير الجهة التي تقدمت ، فتجيبه بأنه من عند الله ، وتحيله على مسبب الأسباب ، ومبرز الأشياء من العدم الصرف إلى الوجود المحض ، فعند ذلك يستريح قلب زكريا بكونه لم يسبقه أحد إلى تعهد مريم ، وبكونه يشهد مقاما شريفا ، واعتناء لطيفا بمن اختارها الله تعالى بأن جعلها في كفالته . وهذا الخارق العظيم قيل : هو بدعوة زكريا لها بالرزق ، فيكون من خصائص زكريا ، وقيل : كان تأسيسا لنبوة ولدها عيسى . وهذان القولان شبيهان بأقوال المعتزلة ; حيث ينفون وجود الخارق على يد غير النبي ، إلا إن كان ذلك في زمان نبي ، فيكون ذلك معجزة لذلك النبي . والظاهر أنها كرامة خص الله بها مريم ، ولو كان خارقا لأجل زكريا لم يسأل عنه زكريا ، وأما كون ذلك لأجل نبوة عيسى ، فهو كان لم يخلق بعد .

قال الزجاج : وهذا الخارق من الآية التي قال تعالى : ( وجعلناها وابنها آية للعالمين ) وقال الجبائي : يجوز أن يكون من معجزات زكريا ، دعا لها على الإجمال . لأن يوصل لها رزقها ، وربما غفل عن تفاصيل ذلك ، فلما رأى شيئا معينا في وقت معين ، سأل عنه ، فعلم أنه معجزة ، فدعا به أو سأل عن ذلك خشية أن يكون الآتي به إنسانا ، فأخبرته أنه ( من عند الله ) ويحتمل أن يكون على أيدي المؤمنين ، وسأل لئلا يكون على وجه لا ينبغي .

( إن الله يرزق من يشاء بغير حساب ) تقدم تفسير هذه الجملة ، والظاهر أنها من كلام مريم ، وقال الطبري : ليس من كلام مريم ، وأنه خبر من الله تعالى لمحمد - صلى الله عليه وسلم . وروى جابر حديثا مطولا فيه تكثير الخبز ، واللحم على سبيل [ ص: 444 ] خرق العادة ، لفاطمة بنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم ، فسألها : من أين لك هذا ؟ فقالت : هو من عند الله . فحمد الله ، وقال : الحمد لله الذي جعلك شبيهة بسيدة نساء بني إسرائيل .

قيل : وفي هذه الآيات أنواع من الفصاحة . العموم ، الذي يراد به الخصوص في قوله : على العالمين ، والاختصاص في قوله : آدم ، ونوحا ، وآل إبراهيم ، و آل عمران . وإطلاق اسم الفرع على الأصل ، والمسبب على السبب ، في قوله : " ذرية " ، فيمن قال المراد : الآباء ، والإبهام في قوله : ما في بطني ، لما تعذر عليها الاطلاع على ما في بطنها ، أتت بلفظ : ما ، الذي يصدق على الذكر والأنثى ، والتأكيد في قوله : ( إنك أنت السميع العليم ) والخبر الذي يراد به الاعتذار في قولها : وضعتها أنثى ، والاعتراض في قوله : والله أعلم بما وضعت ، في قراءة من سكن التاء ، أو كسرها ، وتلوين الخطاب ، ومعدوله في قوله : والله أعلم بما وضعت ، في قراءة من كسر التاء ، خرج من خطاب الغيبة ، في قولها : فلما وضعتها ، إلى خطاب المواجهة في قوله : بما وضعت ، والتكرار في : وأني ، وفي : زكريا ، و زكريا ، وفي : من عند الله ، إن الله ، والتجنيس المغاير في : فتقبلها ربها بقبول ، وأنبتها نباتا ، وفي : رزقا ويرزق ، والإشارة ، وهو أن يعبر باللفظ الظاهر عن المعنى الخفي ، في قوله : هو من عند الله ، أي هو رزق لا يقدر على الإتيان به في ذلك الوقت إلا الله . وفي قوله : رزقا ، أتى به منكرا مشيرا إلى أنه ليس من جنس واحد ، بل من أجناس كثيرة ، لأن النكرة تقتضي الشيوع والكثرة . والحذف في عدة مواضع لا يصح المعنى إلا باعتبارها .

( هنالك دعا زكريا ربه ) أصل : هنالك ، أن يكون إشارة للمكان ، وقد يستعمل للزمان ، وقيل بهما في هذه الآية ، أي في ذلك المكان دعازكريا ، أو : في ذلك الوقت لما رأى هذا الخارق العظيم لمريم ، وأنها ممن اصطفاها الله ، ارتاح إلى طلب الولد ، واحتاج إليه لكبر سنه ، ولأن يرث منه ومن آل يعقوب ، كما قصه تعالى في سورة مريم ، ولم يمنعه من طلبه كون امرأته عاقرا ، إذ رأى من حال مريم أمرا خارجا عن العادة ، فلا يبعد أن يرزقه الله ولدا مع كون امرأته كانت عاقرا ، إذ كانت حنة قد رزقت مريم بعدما أيست من الولد . وانتصاب : هنالك ، بقوله : دعا ، ووقع في تفسير السجاوندي : أن هناك في المكان ، وهنالك في الزمان ، وهو وهم ، بل الأصل أن يكون للمكان سواء اتصلت به اللام والكاف ، أو الكاف فقط ، أو لم يتصلا . وقد يتجوز بها عن المكان إلى الزمان ، كما أن أصل عند ، أن يكون للمكان ، ثم يتجوز بها للزمان ، كما تقول : آتيك عند طلوع الشمس . قيل : واللام في : هنالك ، دلالة على بعد المسافة بين الدعاء والإجابة ، فإنه نقل المفسرون أنه كان بين دعائه ، وإجابته أربعون سنة . وقيل : دخلت اللام لبعد منال هذا الأمر ; لكونه خارقا للعادة ، كما أدخل اللام في قوله : ( ذلك الكتاب ) لبعد مناله ، وعظم ارتفاعه ، وشرفه . وقال الماتريدي : كانت نفسه تحدثه بأن يهب الله له ولدا يبقى به الذكر إلى يوم القيامة ، لكنه لم يكن يدعو مراعاة للأدب ، إذ الأدب أن لا يدعو لمراد إلا فيما هو معتاد الوجود ، وإن كان الله قادرا على كل شيء ، فلما رأى عندها ما هو ناقض للعادة حمله ذلك على الدعاء في طلب الولد غير المعتاد انتهى .

وقوله : كانت تحدثه نفسه بذلك ، يحتاج إلى نقل . وفي قوله : ( هنالك دعا ) دلالة على أن يتوخى العبد بدعائه الأمكنة المباركة ، والأزمنة المشرفة .

( قال رب هب لي من لدنك ذرية طيبة ) هذه الجملة شرح للدعاء ، وتفسير له ، وناداه بلفظ : رب ; إذ هو مربيه ومصلح حاله ، وجاء الطلب بلفظ : " هب " ، لأن الهبة إحسان محض ليس في مقابلتها شيء يكون عوضا للواهب ، ولما كان ذلك يكاد يكون على سبيل ما لا تسبب فيه : لا من الوالد لكبر سنه ، ولا من الوالدة لكونها عاقرا لا تلد ، فكان وجوده كالوجود بغير سبب ، أتى هبة محضة منسوبة إلى الله تعالى بقوله : من لدنك ، أي : من جهة محض قدرتك من غير توسط سبب . وتقدم أن : [ ص: 445 ] لدن ، لما قرب ، وعند : لما قرب ولما بعد ، وهي أقل إبهاما من لدن ، ألا ترى أن عند ، تقع جوابا لـ " أين " ، ولا تقع له جوابا لدن ؟ . ( ومن لدنك ) متعلق : بهب ، وقيل : في موضع الحال من : " ذرية " ; لأنه لو تأخر لكان صفة ، فعلى هذا تتعلق بمحذوف ، والذرية : جنس يقع على واحد ، فأكثر . وقال الطبري : أراد بالذرية هنا واحدا ؛ دليل ذلك طلبه وليا ، ولم يطلب أولياء . قال ابن عطية : وفيما قاله الطبري تعقب ، وإنما الذرية والولي اسما جنس يقعان للواحد فما زاد ، وهكذا كان طلب زكريا انتهى .

وفسر : طيبة ، بأن تكون سليمة في الخلق وفي الدين تقية . وقال الراغب : صالحة ، واستعمال الصالح في الطيب كاستعمال الخبيث في ضده ، على أن في الطيب زيادة معنى على الصالح . وقيل : أراد : بطيبة ، أنها تبلغ في الدين رتبة النبوة ، فإن كان أراد بالذرية مدلولها من كونها اسم جنس ، ولم يقيد بالوحدة ، فوصفها بطيبة ، واضح وإن كان أراد ذكرا واحدا ، فأنث لتأنيث اللفظ ، كما قال :


أبوك خليفة ولدته أخرى     سكات إذا ما عض ليس بأدردا



وكما قال :


أبوك خليفة ولدته أخرى     وأنت خليفة ذاك الكمال



وفي قوله : ( هب لي ) دلالة على طلب الولد الصالح ، والدعاء بحصوله ، وهي سنة المرسلين والصديقين والصالحين .

( إنك سميع الدعاء ) لما دعا ربه بأنه يهب له ولدا صالحا ، أخبر بأنه تعالى مجيب الدعاء . وليس المعنى على السماع المعهود ، بل مثل قوله : سمع الله لمن حمده . عبر بالسماع عن الإجابة إلى المقصد ، واقتفى في ذلك جده الأعلى إبراهيم - عليه السلام - إذ قال : ( الحمد لله الذي وهب لي على الكبر إسماعيل وإسحاق إن ربي لسميع الدعاء ) فأجاب الله دعاءه ورزقه على الكبر ، كما رزق إبراهيم على الكبر ، وكان قد تعود من الله إجابة دعائه . ألا ترى إلى قوله : ( ولم أكن بدعائك رب شقيا ) ؟ .

قيل : وذكر تعالى في كيفية دعائه ثلاث صيغ : أحدها : هذا ، والثاني : ( إني وهن العظم مني ) إلى آخره . والثالث : ( رب لا تذرني فردا وأنت خير الوارثين ) فدل على أن الدعاء تكرر منه ثلاث مرات ، بهذه الثلاث الصيغ ، ودل على أن بين الدعاء والإجابة زمانا انتهى . ولا يدل على ذلك تكرير الدعاء ، كما قيل : لأنه حالة الحكاية قد يكون حكي في قوله ( رب لا تذرني فردا ) على سبيل الإيجاز ، وفي سورة مريم على سبيل الإسهاب ، وفي هذه السورة على سبيل التوسط . وهذه الحكاية في هذه الصيغ إنما هي بالمعنى ، إذ لم يكن لسانهم عربيا ، ويدل على أنه دعاء واحد متعقب بالتبشير ، العطف بالفاء في قوله : ( فنادته الملائكة ) وفي قوله : ( فاستجبنا له ووهبنا له يحيى ) وظاهر قوله في مريم : ( يازكريا إنا نبشرك ) اعتقاب التبشير الدعاء لا تأخره عنه .

التالي السابق


الخدمات العلمية