الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
( والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم ) ، في هذه الجملة وما قبلها دليل على أن هدى العبد إنما يكون من الله لمن يشاء له الهداية ، ورد على المعتزلة في زعمهم أنه يستقل بهدى نفسه ، وتكرر اسم الله في قوله : والله ، جاء على الطريقة الفصحى التي هي استقلال كل جملة ، وذلك أولى من أن يفتقر بالإضمار إلى ما قبلها من مفسر ذلك المضمر ، وقد تقدم لذلك نظائر . وفي قوله : " من يشاء " إشعار ، بل دلالة على أن هدايته تعالى منشؤها الإرادة فقط ، لا وصف ذاتي في الذي يهديه يستحق به الهداية ، بل ذلك مغدوق بإرادته تعالى فقط ( لا يسأل عما يفعل ) .

( أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم ) ، نزلت في غزوة الخندق حين أصاب المسلمين ما أصاب من الجهد وشدة الخوف والبرد وأنواع الأذى ، كما قال تعالى : ( وبلغت القلوب الحناجر ) ، قاله قتادة ، والسدي . أو في حرب أحد ، قتل فيها جماعة من المسلمين ، وجرت شدائد حتى قال عبد الله بن أبي وأصحابه : إلى متى تقتلون أنفسكم وتهلكون أموالكم ؟ لو كان محمد نبيا لما سلط عليكم القتل والأسر . فقالوا : لا جرم ، من قتل منا دخل الجنة . فقال : إلى متى تسألون أنفسكم بالباطل ؟ أو : في أول ما هاجروا إلى المدينة ، دخلوها بلا مال ، وتركوا ديارهم وأموالهم بأيدي المشركين ، رضي الله تعالى عنهم ، فأظهرت اليهود العداوة ، وأسر قوم النفاق . قاله عطاء . قيل : ومناسبة هذه الآية لما قبلها أنه قال : يهدي من يشاء ، والمراد إلى الحق الذي يفضي اتباعه إلى الجنة ، فبين أن ذلك لا يتم إلا باحتمال الشدائد والتكليف ؛ أو : لما بين أنه هداهم بين أنه بعد تلك الهداية احتملوا الشدائد في إقامة الحق ، فكذا أنتم - أصحاب محمد - لا تستحقون الفضيلة في الدين إلا بتحمل هذه المحن . و " أم " هنا منقطعة مقدرة ببل والهمزة فتتضمن إضرابا ، وهو انتقال من كلام إلى كلام ، ويدل على استفهام لكنه استفهام تقرير ، وهي التي عبر عنها أبو محمد بن عطية بأن " أم " قد تجيء ابتداء كلام - وإن لم يكن تقسيم ولا معادلة - ألف استفهام . فقوله " قد يجيء " ابتداء كلام ليس كما ذكر ؛ لأنها تتقدر ببل والهمزة ، فكما أن " بل " لا بد أن يتقدمها كلام حتى يصير في حيز عطف الجمل ، فكذلك ما تضمن معناه . وزعم بعض اللغويين أنها تأتي بمنزلة همزة الاستفهام ، ويبتدأ بها ؛ فهذا يقتضي أن يكون التقدير : أحسبتم ؟ وقال الزجاج : بمعنى بل ، قال :


بدت مثل قرن الشمس في رونق الضحى وصورتها أم أنت في العين أملح ؟

ورام بعض المفسرين أن يجعلها متصلة ، ويجعل قبلها جملة مقدرة تصير بتقديرها أم متصلة ، فتقدير الآية : فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق ، فصبروا على استهزاء قومهم بهم ، أفتسلكون سبيلهم ؟ أم تحسبون أن تدخلوا الجنة من غير سلوك سبيلهم ؟ فتلخص في أم هنا أربعة أقوال : الانقطاع [ ص: 140 ] على أنها بمعنى بل والهمزة ، والاتصال على إضمار جملة قبلها ، والاستفهام بمعنى الهمزة ، والإضراب بمعنى بل ؛ والصحيح هو القول الأول . ومفعولا " حسبتم " سدت " أن " مسدهما على مذهب سيبويه ، وأما أبو الحسن فسدت عنده مسد المفعول الأول ، والمفعول الثاني محذوف ، وقد تقدم هذا المعنى في قوله : ( الذين يظنون أنهم ملاقو ربهم ) .

التالي السابق


الخدمات العلمية