الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
( وإذا قيل له اتق الله أخذته العزة بالإثم ) ، تحتمل أيضا هذه الجملة أن تكون مستأنفة ، وتحتمل أن تكون داخلة في الصلة ، تقدم الكلام في نحو هذا في قوله : ( وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض ) ، وما الذي أقيم مقام الفاعل ، فأغنى عن ذكره هنا ، و " أخذته العزة " احتوت عليه وأحاطت به ، وصار كالمأخوذ لها كما يأخذ الشيء باليد . قال الزمخشري : من قولك أخذته بكذا إذا حملته عليه وألزمته إياه ، أي : حملته العزة التي فيه ، وحمية الجاهلية على الإثم الذي ينهى عنه ، وألزمته ارتكابه ، وأن لا يخلي عنه ضررا ولجاجا ، أو على رد قول الواعظ ، انتهى كلامه . فالباء ، على كلامه للتعدية ، كأن المعنى ألزمته العزة الإثم ، والتعدية بالباء بابها الفعل اللازم ، نحو : ( لذهب بسمعهم وأبصارهم ) ، أي : لأذهب سمعهم ، وندرت التعدية بالباء في المتعدي ، نحو : صككت الحجر بالحجر ، أي أصككت الحجر الحجر ، بمعنى جعلت أحدهما يصك الآخر ، ويحتمل الباء أن تكون للمصاحبة ، أي : أخذته مصحوبا بالإثم ، أو مصحوبة بالإثم ، فيكون للحال من المفعول أو الفاعل ، ويحتمل أن تكون سببية ، والمعنى : أن إثمه السابق كان سببا لأخذ العزة له ، حتى لا يقبل ممن يأمره بتقوى الله تعالى ، فتكون الباء هنا كمن ، في قول الشاعر :


أخذته عزة من جهله فتولى مغضبا فعل الضجر



وعلى أن تكون " الباء " سببية فسره الحسن ، قال : أي من أجل الإثم الذي في قلبه ، يعني الكفر . وقد فسرت العزة بالقوة وبالحمية والمنعة ، وكلها متقاربة . وفي قوله : ( أخذته العزة بالإثم ) نوع من البديع يسمى التتميم ، وهو إرداف الكلام بكلمة ترفع عنه اللبس ، وتقربه للفهم ، كقوله تعالى : ( ولا طائر يطير بجناحيه ) ، وذلك أن العزة محمودة ومذمومة ، فالمحمودة طاعة الله ، كما قال : ( أعزة على الكافرين ) ، ( ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين ) ، ( فإن العزة لله جميعا ) ، فلما قال " بالإثم " اتضح المعنى وتم ، وتبين أنها العزة المذمومة المؤثم صاحبها .

قال ابن مسعود : لا ينبغي للرجل أن يغضب إذا قيل له اتق الله ، أو تقول : أولمثلي يقال هذا ؟ وقيل لعمر : اتق الله ، فوضع خده على الأرض تواضعا ، وقيل : سجد ، وقال : هذا مقدرتي . وتردد يهودي إلى باب هارون الرشيد سنة ، فلم يقض له حاجة ، فتحيل حتى وقف بين يديه ، فقال : اتق الله يا أمير المؤمنين ، فنزل هارون عن دابته ، وخر ساجدا ، وقضى حاجته ، فقيل له في ذلك ، فقال : تذكرت قوله تعالى : ( وإذا قيل له اتق الله أخذته العزة بالإثم ) .

( فحسبه جهنم ) ، أي : كافيه جزاء وإذلالا جهنم ، وهي جملة مركبة من مبتدأ وخبر ، وذهب بعضهم إلى أن جهنم فاعل " فحسبه " : لأنه جعله اسم فعل ، إما بمعنى الفعل الماضي ، أي : كفاه جهنم ، أو بمعنى فعل الأمر ، ودخول حرف الجر عليه واستعماله صفة ، وجريان حركات الإعراب عليه يبطل كونه اسم فعل وقوبل على اعتزازه بعذاب جهنم ، وهو الغاية في الذل ، ولما كان قوله " اتق الله " حل به ما أمر أن يتقيه ، وهو عذاب الله ، وفي قوله " فحسبه جهنم " استعظام لما حل به من العذاب ، كما تقول للرجل : كفاك ما حل بك إذا استعظمت وعظمت عليه ما حل به .

( ولبئس المهاد ) تقدم الكلام في " بئس " [ ص: 118 ] والخلاف في تركيب مثل هذه الجملة مذكور في علم النحو ، لكن التفريع على مذهب البصريين في أن بئس ونعم فعلان جامدان ، وأن المرفوع بعدهما فاعل بهما ، وأن المخصوص بالذم ، إن تقدم فهو مبتدأ ، وإن تأخر فكذلك ، هذا مذهب سيبويه . وحذف هنا المخصوص بالذم للعلم به إذ هو متقدم ، والتقدير : ولبئس المهاد جهنم . أو هي ، وبهذا الحذف يبطل مذهب من زعم أن المخصوص بالمدح أو بالذم إذا تأخر كان خبر مبتدأ محذوف ، أو مبتدأ محذوف الخبر : لأنه يلزم من حذفه حذف الجملة بأسرها من غير أن ينوب عنها شيء : لأنها تبقى جملة مفلتة من الجملة السابقة قبلها ، إذ ليس لها موضع من الإعراب ، ولا هي اعتراضية ولا تفسيرية : لأنهما مستغنى عنهما وهذه لا يستغنى عنها ، فصارت مرتبطة غير مرتبطة ، وذلك لا يجوز . وإذا جعلنا المحذوف من قبيل المفرد . كان فيما قبله ما يدل على حذفه ، وتكون جملة واحدة ، كحاله إذا تقدم ، وأنت لا ترى فرقا بين قولك : زيد نعم الرجل ، ونعم الرجل زيد ، كما لا تجد فرقا بين : زيد قام أبوه ، وبين : قام أبو زيد ، وحسن حذف المخصوص بالذم هنا كون المهاد وقع فاصلة ، وكثيرا ما حذف في القرآن لهذا المعنى نحو قوله : ( فنعم المولى ونعم النصير ) ، ( فلبئس مثوى المتكبرين ) ، وجعل ما أعد لهم مهادا على سبيل الهزء بهم ، إذ المهاد هو ما يستريح به الإنسان ويوطأ له للنوم ، ومثله قول الشاعر :


وخيل قد دلفت لها بخيل     تحية بينهم ضرب وجيع



أي : القائم مقام التحية هو الضرب الوجيع ، وكذلك القائم مقام المهاد لهم هو المستقر في النار .

التالي السابق


الخدمات العلمية