الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
( يا أيها الذين آمنوا لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى كالذي ينفق ماله رئاء الناس ولا يؤمن بالله واليوم الآخر ) لما شرط في الإنفاق أن لا يتبع منا ولا أذى ، لم يكتف بذلك حتى جعل المن والأذى مبطلا للصدقة ، ونهى عن الإبطال بهما ليقوي اجتناب المؤمن لهما ، ولذلك ناداهم بوصف الإيمان ، ولما جرى ذكر المن والأذى مرتين ، أعادهما هنا بالألف واللام ، ودلت الآية على أن المن والأذى مبطلان للصدقة ، ومعنى إبطالهما أنه لا ثواب فيها عند الله ، والسدي يعتقد أن السيئات لا تبطل الحسنات ، فقال جمهور العلماء : الصدقة التي يعلم الله من صاحبها أنه يمن ويؤذي لا تتقبل ، وقيل : جعل الله للملك عليها أمارة ، فهو لا يكتبها إذ نيته لم تكن لوجه الله ، ومعنى قوله : ( لا تبطلوا صدقاتكم ) أي : لا تأتوا بهذا العمل باطلا ؛ لأنه إذا قصد به غير وجه الله فقد أتي به على جهة البطلان ، وقال القاضي عبد الجبار : معلوم أن الصدقة قد وقعت وتقدمت ، فلا يصح أن تبطل . فالمراد إذن إبطال أجرها ؛ لأن الأجر لم يحصل بعد ، وهو مستقبل ، فيصير إبطاله بما يأتيه من المن والأذى ، انتهى كلامه .

والمعنيان تحملهما الآية ، ولتعظيم قبح المن أعاد الله ذلك في معارض الكلام ، فأثنى على تاركه أولا وفضل المنع على عطية يتبعها المن ثانيا ، وصرح بالنهي عنها ثالثا ، وخص الصدقة بالنهي إذ كان المن فيها أعظم وأشنع ، والظاهر أن قوله : ( بالمن ) معناه على الفقير ، وهو قول الجمهور ، وقال ابن عباس : بالمن على الله تعالى بسبب صدقته ، والأذى للسائل ، والكاف ، قيل : في موضع نعت لمصدر محذوف تقديره إبطالا ، كإبطال صدقة الذي ينفق ، وقيل : الكاف في موضع الحال ، أي : لا تبطلوا مشبهين الذي ينفق ماله بالرياء ، وفي هذا المنفق قولان : أحدهما : أنه المنافق ، ولم يذكر الزمخشري غيره ينفق للسمعة وليقال : إنه سخي كريم ، هذه نيته ، لا ينفق لرضا الله ، وطلب ثواب الآخرة ؛ لأنه في الباطن لا يؤمن بالله واليوم الآخر .

وقيل : المراد به الكافر المجاهر ، وذلك بإنفاقه لقول الناس : ما أكرمه وأفضله ولا يريد بإنفاقه إلا الثناء عليه ، ورجح مكي القول الأول بأنه أضاف إليه الرياء ، وذلك من فعل [ ص: 309 ] المنافق الساتر لكفره ، وأما الكافر فليس عنده رياء ؛ لأنه مناصب للدين مجاهر بكفره ، وانتصاب ( رئاء ) على أنه مفعول من أجله ، أو مصدر في موضع الحال ، وقرأ طلحة بن مصرف : ( رياء ) بإبدال الهمزة الأولى ياء لكسر ما قبلها ، وهي مروية عن عاصم .

( فمثله كمثل صفوان عليه تراب فأصابه وابل فتركه صلدا ) هذا تشبيه ثان ، واختلف في الضمير في قوله : ( فمثله ) فالظاهر أنه عائد على ( كالذي ينفق ماله رئاء الناس ) لقربه منه ، ولإفراده ، ضرب الله لهذا المنافق المرائي أو الكافر المباهي ، المثل بصفوان عليه تراب ، يظنه الظان أرضا منبتة طيبة ، فإذا أصابه وابل من المطر أذهب عنه التراب ، فيبقى صلدا منكشفا ، وأخلف ما ظنه الظان ، كذلك هذا المنافق يرى الناس أن له أعمالا كما يرى التراب على هذا الصفوان ، فإذا كان يوم القيامة اضمحلت وبطلت ، كما أذهب الوابل ما كان على الصفوان من التراب ، وقيل : الضمير في ( فمثله ) عائد على المان المؤذي ، وأنه شبه بشيئين أحدهما : بالذي ينفق ماله رئاء الناس . والثاني : بصفوان عليه تراب ، ويكون قد عدل من خطاب إلى غيبة ، ومن جمع إلى إفراد .

قال القاضي عبد الجبار : ذكر تعالى لكيفية إبطال الصدقة بالمن والأذى مثلين ، فمثله أولا بمن ينفق ماله رئاء الناس ، وهو مع ذلك كافر لا يؤمن بالله واليوم الآخر ؛ لأن إبطال نفقة هذا المرائي الكافر أظهر من بطلان أجر صدقة من يتبعها بالمن والأذى ، ثم مثله ثانيا بالصفوان الذي وقع عليه تراب وغبار ، ثم إذا أصابه المطر القوي فيزيل ذلك الغبار عنه حتى يصير كأنه ما عليه تراب ولا غبار أصلا ، قال : فكما أن الوابل أزال التراب الذي وقع على الصفوان ، فكذا المن والأذى يجب أن يكونا مبطلين لأجر الإنفاق بعد حصوله ، وذلك صريح القول في الإحاطة والتكفير ، انتهى كلامه . وهو مبني على ما قدمناه عنه في القول في الإحباط والتكفير في قوله : ( لا تبطلوا صدقاتكم ) من أن الصدقة وقعت صحيحة ثم بطلت بالمن والأذى ، وتقدم القول بأن المعنى : لا توقعوها باطلة ، ويدل على هذا المعنى التشبيه بقوله : ( كالذي ينفق ) فإن نفقته وقعت باطلة لمقارنة الكفر لها ، فيمتنع دخولها صحيحة في الوجود ، وأما التمثيل الثاني فإنه عند عبد الجبار وأصحابه ، جعل الوابل مزيلا لذلك التراب بعد كينونته عليه ، فكذلك المن والأذى مزيلان للأجر بعد حصول استحقاقه ، وعند غيرهم أن المشبه بالتراب الواقع على الصفوان هو الصدقة المقترنة بالنية الفاسدة التي لولاها لكانت الصدقة مرتبا عليها حصول الأجر والثواب ، قيل : والحمل على هذا المعنى أولى ؛ لأن التراب إذا وقع على الصفوان لم يكن ملتصقا به ، ولا غائصا فيه ، فهو في مرأى العين متصل ، وفي الحقيقة منفصل ، فكذا الإنفاق المقرون بالمن والأذى ، يرى في الظاهر أنه عمل بر وفي الحقيقة ليس كذلك ، وعلى هذين القولين يكون التقدير : لا تبطلوا أجور صدقاتكم ، أو لا تبطلوا أصل صدقاتكم ، وقرأ ابن المسيب ، والزهري : ( صفوان ) بفتح الفاء ، قيل : وهو شاذ في الأسماع ، إنما بابه المصادر : كالغليان والنزوان ، وفي الصفات ، نحو : رجل صيحان ، وتيس عدوان ، وارتفع ( تراب ) على الفاعلية ، أي : استقر عليه تراب ، فأصابه وابل ، و ( فأصابه ) ، معطوف على ذلك الفعل الرافع للتراب ، والضمير في ( فأصابه ) عائد على الصفوان ، ويحتمل أن يعود على التراب ، وفي ( فتركه ) عائد على الصفوان ، وهذه الجملة جعل فيها العمل الظاهر كالتراب ، والمان المؤذي أو المنافق كالصفوان ، ويوم القيامة كالوابل ، وعلى قول المعتزلة : المن والأذى كالوابل .

وقال القفال : وفيه احتمال آخر ، وهو أن أعمال العباد ذخائر لهم يوم القيامة ، فمن عمل بإخلاص فكأنه طرح بذرا في أرض طيبة ، فهو يتضاعف له وينمو ، ألا ترى أنه ضرب المثل في ذلك بجنة فوق ربوة ؟ فهو يجده وقت الحاجة إليه ، وأما المان والمؤذي والمنافق ، فكمن بذر في الصفوان لا يقبل بذرا ولا [ ص: 310 ] ينمو فيه شيء ، عليه غبار قليل أصابه جود فبقي مستودع بذر خاليا ، فعند الحاجة إلى الزرع لا يجد فيه شيئا ، انتهى ما لخص من كلامه ، وحاصله : أن التشبيه انطوى من حيث المعنى على بذر وزرع .

( لا يقدرون على شيء مما كسبوا ) اختلف في الضمير في : ( يقدرون ) فقيل : هو عائد على المخاطبين في قوله : ( لا تبطلوا صدقاتكم ) ويكون من باب الالتفات ، إذ هو رجوع من خطاب إلى غيبة ، والمعنى : أنكم إذا فعلتم ذلك لم تقدروا على الانتفاع بشيء مما كسبتم ، وهذا فيه بعد ، وقيل : هو عائد على الذي ينفق ، لأن ( كالذي ) جنس ، فلك أن تراعي لفظه كما في قوله : ( ينفق ماله رئاء الناس ولا يؤمن ) فأفرد الضمير ، ولك أن تراعي المعنى ؛ لأن معناه جمع ، وصار هذا ( كمثل الذي استوقد نارا فلما أضاءت ما حوله ) ثم قال : ( ذهب الله بنورهم ) ، قال ابن عطية : وقد انحمل الكلام قبل على لفظ الذي ، وهذا هو مهيع كلام العرب ، ولو انحمل أولا على المعنى لقبح بعد أن يحمل على اللفظ ، انتهى كلامه . وقد تقدم لنا الكلام معه في شيء من هذا ، وفي الحمل على اللفظ أو المعنى تفصيل لا يوجد إلا في مبسوطات النحو .

وقيل : هو عائد على معلوم غير مذكور المعنى لا يقدر أحد من الخلق على الانتفاع بذلك البذر الملقى في ذلك التراب الذي على الصفوان ؛ لأنه زال ذلك التراب وزال ما كان فيه ، فكذلك المان والمؤذي والمنافق ، لا ينتفع أحد منهم بعمله يوم القيامة ، وقيل : هو عائد على المرائي الكافر أو المنافق ، أو على المان ، أي : لا يقدرون على الانتفاع بثواب شيء من إنفاقهم ، وهو كسبهم عند حاجتهم إليه ، وعبروا عن النفقة بالكسب ؛ لأنهم قصدوا بها الكسب ، وهذا كقوله تعالى : ( وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثورا ) وقوله : ( أعمالهم كرماد اشتدت به الريح في يوم عاصف ) الآية . وقوله : ( أعمالهم كسراب بقيعة ) ويكفي من ذكر العمل لغير وجه الله حديث الثلاثة الذين هم أول الناس يقضى عليه يوم القيامة ، وهو : المستشهد والعالم والجواد .

( والله لا يهدي القوم الكافرين ) يعني الموافقين على الكفر ، ولا يهديهم في كفرهم بل هو ضلال محض ، أو لا يهديهم في أعمالهم ، وهم على الكفر ، وفي هذا ترجح لمن قال : إن ضرب المثل عائد على الكافر .

( ومثل الذين ينفقون أموالهم ابتغاء مرضاة الله وتثبيتا من أنفسهم كمثل جنة بربوة ) لما ضرب مثل من أنفق ماله رئاء الناس وهو غير مؤمن ، ذكر ضده بتمثيل محسوس للذهن ، حتى يتصور السامع تفاوت ما بين الضدين ، وهذا من بديع أساليب فصاحة القرآن ، ولما وصف صاحب النفقة بوصفين ، قابل ذلك هنا بوصفين ، فقوله : ( ابتغاء مرضاة الله ) مقابل لقوله : ( رئاء الناس ) وقوله : ( وتثبيتا من أنفسهم ) مقابل لقوله : ( ولا يؤمن بالله واليوم الآخر ) لأن المراد بالتثبيت توطين النفس على المحافظة عليه وترك ما يفسده ، ولا يكون إلا عن يقين بالآخرة ، والتقادير الثلاثة التي في قوله : ( مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة ) جارية هنا ، أي : ومثل المنافقين كمثل غارس حبة ، أو مثل نفقتهم كحبة ، أو مثل المنفقين ونفقتهم كمثل حبة وغارسها . وجوزوا في : ( ابتغاء ) أن يكون مصدرا في موضع الحال . أي : مبتغين ، وأن يكون مفعولا من أجله ، وكذلك ( وتثبيتا ) .

قال ابن عطية : ولا يصح أن يكون ( ابتغاء ) مفعولا من أجله ؛ لعطف ( وتثبيتا ) عليه ، ولا يصح في : ( وتثبيتا ) أنه مفعول من أجله ؛ لأن الإنفاق ليس من أجل التثبيت ، وقال مكي في ( المشكل ) : كلاهما مفعول من أجله ، وهو مردود بما بيناه ، انتهى كلامه ، وتثبيت ، مصدر : ثبت ، وهو متعد ، ويحتمل أن يكون المفعول محذوفا تقديره الثواب من الله تعالى ، أي : وتثبيتا وتحصيلا من أنفسهم ، الثواب على تلك النفقة ، فيكون إذ ذاك تثبيت الثواب وتحصيله من الله حاملا على الإنفاق في سبيل الله ، ومن قدر المفعول غير ذلك أي : وتثبيتا من أنفسهم أعمالهم بإخلاص النية ، وجعله من أنفسهم على أن تكون : من ، بمعنى : اللام ، أي : لأنفسهم ، كما تقول : [ ص: 311 ] فعلت ذلك كسرا من شهوتي ، أي : لشهوتي ، فلا يتضح فيه أن ينتصب على المفعول له ، قال الشعبي ، وقتادة ، والسدي ، وأبو صالح ، وابن زيد : معناه وتيقنا ، أي : أن نفوسهم لها بصائر متأكدة ، فهي تثبتهم على الإنفاق ويؤكده قراءة من قرأ ( وتبيينا من أنفسهم ) وقال قتادة أيضا : واحتسابا من أنفسهم . وقال الشعبي أيضا والضحاك والكلبي : وتصديقا ، أي : يخرجون الزكاة طيبة بها أنفسهم . وقال ابن جبير ، وأبو مالك : تحقيقا في دينهم . وقال ابن كيسان : إخلاصا وتوطيدا لأنفسهم على طاعة الله في نفقاتهم ، وقال الزجاج : ومقرين حين ينفقون أنها مما يثيب الله عليها ، وقال الشعبي أيضا : عزما ، وقال يمان أيضا : بصيرة ، وقال مجاهد ، والحسن : معناه أنهم يثبتون ، أي يضعون صدقاتهم . قال الحسن : كان الرجل إذا هم بصدقة يتثبت ، فإن كان ذلك لله أمضاه ، وإن خالطه شك أمسك .

وقد أجاز بعض المصريين أن يكون قوله : ( وتثبيتا ) بمعنى : تثبتا ، فيكون لازما . قال : والمصادر قد تختلف ، ويقع بعضها موقع بعض ، ومنه قوله : ( وتبتل إليه تبتيلا ) أي : تبتلا ورد هذا القول بأن ذلك لا يكون بالفعل المتقدم على المصدر ، نحو الآية ، أما أن يأتي بالمصدر من غير بنائه على فعل مذكور فلا يحمل على غير فعله الذي له في الأصل ، تقول : إن ثبت فعل لازم معناه : تمكن ورسخ وتحقق وثبت معدى بالتضعيف ، ومعناه : مكن وحقق . قال ابن رواحة يخاطب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :


فثبت الله ما آتاك من حسن تثبيت عيسى ونصرا كالذي نصروا



فالمعنى - والله أعلم - أنهم يثبتون من أنفسهم على الإيمان بهذا العمل الذي هو إخراج المال الذي هو عديل الروح في سبيل الله ابتغاء رضا ؛ لأن مثل هذا العمل شاق على النفس ، فهم يعملون لتثبيت النفس على الإيمان ، وما ترجو من الله بهذا العمل الصعب ؛ لأنها إذا ثبتت على الأمر الصعب انقادت وذلت له ، وإذا كان التثبيت مسندا إليهم كانت ( من ) في موضع نصب متعلقة بنفس المصدر ، وتكون للتبعيض ، مثلها في : هز من عطفه ، وحرك من نشاطه ، وإن كان التثبيت مسندا في المعنى إلى أنفسهم كانت : ( من ) في موضع نصب أيضا صفة للمصدر تقديره : كائنا من أنفسهم .

قال الزمخشري : فإن قلت : فما معنى التبعيض ؟ قلت : معناه أن من بذل ماله لوجه الله فقد ثبت بعض نفسه ، ومن بذل ماله وروحه معا فهو الذي ثبتها كلها ( وتجاهدون في سبيل الله بأموالكم وأنفسكم ) انتهى . والظاهر أن نفسه هي التي تثبته وتحمله على الإنفاق في سبيل الله ، ليس له محرك إلا هي ، لما اعتقدته من الإيمان وجزيل الثواب ، فهي الباعثة له على ذلك ، والمثبتة له بحسن إيمانها وجليل اعتقادها ، وقرأ عاصم الجحدري ( كمثل حبة ) بالحاء ، والباء في ( بربوة ) ظرفية ، وهي في موضع الصفة فتتعلق بمحذوف ، وخص الربوة لحسن شجرها وزكاء ثمرها ، كما قال الشاعر ، وهو الخليل بن أحمد ، رحمه الله تعالى :


ترفعت عن ندى الأعماق وانخفضت     عن المعاطش واستغنت بسقياها
فمال بالخوخ والرمان أسفلها     واعتم بالنخل والزيتون أعلاها



تفسير ابن عباس : الربوة ، بالمكان المرتفع الذي لا يجري فيه الأنهار ، إنما يريد المذكورة لقوله : ( أصابها وابل ) فدل على أنها ليس فيها ماء جار ، ولم يرد أن جنس الربوة لا يجري فيها ماء ، ألا ترى قوله تعالى : ( إلى ربوة ذات قرار ومعين ) وخصت بأن سقياها الوابل لا الماء الجاري فيها على عادة بلاد العرب بما يحسونه كثيرا .

وقال أبو عبد الله محمد بن عمر الرازي : المفسرون قالوا : البستان إذا كان في ربوة كان أحسن وأكثر ريعا ، وفيه لي إشكال ؛ لأنه يكون فوق الماء ، ولا ترتفع إليه الأنهار ، وتضربه الرياح كثيرا ، فلا يحسن ريعه ، وإذا كان في وهدة انصبت إليه المياه ، ولا تصل إليه آثار الرياح ، فلا يحسن [ ص: 312 ] أيضا ريعه ، وإنما يحسن ريعه في أرض مستوية ، فالمراد بالربوة ليس ما ذكروه ، وإنما هو كون الأرض طيبة بحيث إذا نظر نزول المطر عليها انتفخت وربت ، فيكثر ريعها ، وتكمل الأشجار فيها ، ويؤيده : ( وترى الأرض هامدة ) الآية . وأنه في مقابلة المثل الأول ، والأول لا يؤثر فيه المطر ، وهو : الصفوان ، انتهى كلامه . وفيه بعض تلخيص ، وما قاله قاله قبله الحسن . الربوة الأرض المستوية التي لا تعلو فوق الماء ، وقال الشاعر في رياض الحزن :


ما روضة من رياض الحزن معشبة     خضراء جاد عليها وابل هطل



ولا يراد : برياض الحزن ، رياض الربا ، كما زعم الطبري ، بل : رياض الحزن هي المنسوبة إلى نجد ، ونجد يقال لها : الحزن ، وإنما نسبت الروضة إلى الحزن وهو نجد ؛ لأن نباته أعطر ، ونسيمه أبرد ، وأرق ، فهي خير من رياض تهامة ، وقرأ ابن عامر ، وعاصم بفتح الراء ، وباقي السبعة بالضم ، وكذلك خلافهم في ( قد أفلح ) وقرأ ابن عباس بكسر الراء ، وقرأ أبو جعفر ، وأبو عبد الرحمن : ( برباوة ) على وزن : كراهة ، وأبو الأشهب العقيلي : ( برباوة ) على وزن رسالة .

( أصابها وابل ) جملة في موضع الصفة لجنة ، وبدئ بالوصف بالمجرور ، ثم بالوصف بالجملة ، وهذا الأكثر في لسان العرب ، وبدئ بالوصف الثابت ، وهو : كونها ( بربوة ) ثم بالوصف العارض ، وهو ( أصابها وابل ) وجاء في وصف صفوان قوله : ( عليه تراب ) ثم عطف عليه بالفاء ، وهنا لم يعطف ، بل أخرج صفة ، وينظر ما الفرق بين الموضعين ، وجوز أن يكون : ( أصابها وابل ) حالا من جنة ؛ لأنها نكرة ، وقد وصفت حالا من الضمير في الجار والمجرور .

( فآتت أكلها ضعفين ) آتت بمعنى : أعطت ، والمفعول الأول محذوف ، التقدير : فآتت صاحبها ، أو أهلها أكلها ، كما حذف في قوله : ( كمثل جنة ) أي : صاحب أو غارس جنة ، ولأن المقصود ذكر ما يثمر لا لمن تثمر ، إذ هو معلوم ، ونصب ( ضعفين ) على الحال ، ومن زعم أن ( ضعفين ) مفعول ثان لآتت ، فهو ساه ، وليس المعنى عليه ، وكذلك قول من زعم أن ( آتت ) بمعنى أخرجت ، وأنها تتعدى لواحد ؛ إذ لا يعلم ذلك في لسان العرب ، ونسبة الإيتاء إليها مجاز ، والأكل ، بضم الهمزة ، الشيء المأكول ، وأريد هنا الثمر ، وإضافته إلى الجنة إضافة اختصاص ، كسرج الدابة ؛ إذ ليس الثمر مما تملكه الجنة ، وقرأ الحرميان ، وأبو عمرو بضم الهمزة ، وإسكان الكاف ، وكذا كل مضاف إلى مؤنث ، ونقل أبو عمرو فيما أضيف إلى غير مكني ، أو إلى مكني مذكر ، والباقون بالتثقيل .

ومعنى ( ضعفين ) مثلا ما كانت تثمر بسبب الوابل ، وبكونه في ربوة ؛ لأن ريع الربا أكثر ، ومن السيل والبرد أبعد ، وقيل : ضعفي غيرها من الأرضين ، وقيل : أربعة أمثالها ، وهذا مبني على أن ضعف الشيء مثلاه ، وقال أبو مسلم : ثلاثة أمثالها ، قال تاج القراء : وليس لهذا في العربية وجه ، وإيتاء الضعفين هو في حمل واحد . وقال عكرمة ، وعطاء : معنى ضعفين أنها حملت في السنة مرتين . ويحتمل عندي أن يكون قوله : ( ضعفين ) مما لا يزاد به شفع الواحد ، بل يكون من التشبيه الذي يقصد به التكثير ، وكأنه قيل : فآتت أكلها ضعفين ، ضعفا بعد ضعف أي : أضعافا كثيرة ، وهذا أبلغ في التشبيه للنفقة بالجنة ؛ لأن الحسنة لا يكون لها ثواب حسنتين ، بل جاء تضاعف أضعافا كثيرة ، وعشر أمثالها ، وسبع مائة وأزيد .

( فإن لم يصبها وابل فطل ) قال ابن عيسى : فيه إضمار ، التقدير : فإن لم يكن يصيبها وابل ، كما قال الشاعر :


إذا ما انتسبنا لم تلدني لئيمة



أي : لم تكن تلدني ، والمعنى : أن الطل يكفيها وينوب مناب الوابل في إخراج الثمرة ضعفين ، وذلك أكرم الأرض وطيبها ، فلا تنقص ثمرتها بنقصان المطر ، وقيل : المعنى فإن لم يصبها وابل فيتضاعف ثمرها ، وأصابها طل فأخرجت دون ما تخرجه بالوابل ، فهي على كل حال لا تخلو من أن تثمر . قال الماوردي : زرع الطل أضعف من زرع المطر [ ص: 313 ] وأقل ريعا ، وفيه - وإن قل - تماسك ونفع ، انتهى .

ودعوى التقديم والتأخير في الآية ، على ما قاله بعضهم ، من أن المعنى أصابها وابل ، فإن لم يصبها وابل فطل ، فآتت أكلها ضعفين حتى يجعل إيتاؤها الأكل ضعفين على الحالين من الوابل والطل ، لا حاجة إليها ، والتقديم والتأخير من ضرورات الشعر ، فينزه القرآن عن ذلك .

قال زيد بن أسلم : المضروب به المثل أرض مصر ، إن لم يصبها مطر زكت ، وإن أصابها مطر أضعفت . قال الزمخشري : مثل حالهم عند الله بالجنة على الربوة ، ونفقتهم الكثيرة والقليلة بالوابل والطل ، فكما أن كل واحد من المطرين يضعف أكل الجنة ، فكذلك نفقتهم كثيرة كانت أو قليلة ، بعد أن يطلب بها وجه الله ويبذل فيها الوسع ، زاكية عند الله ، زائدة في زلفاهم وحسن حالهم عنده ، انتهى كلامه . وقال الماوردي قريبا من كلام الزمخشري ، قال : أراد بضرب هذا المثل أن كثير البر مثل زرع المطر كثير النفع ، وقليل البر مثل زرع الطل قليل النفع ، فلا يدع قليل البر إذا لم يفعل كثيره ، كما لا يدع زرع الطل إذا لم يقدر على زرع المطر ، انتهى كلامه .

وقال ابن عطية : شبه نمو نفقات هؤلاء المخلصين الذين يربي الله صدقاتهم كتربية الفصيل والفلو ، بنمو نبات هذه الجنة بالربوة الموصوفة ، بخلاف الصفوان الذي انكشف عنه ترابه فبقي صلدا . وقال ابن الجوزي : معنى الآية أن صاحب هذه الجنة لا يخيب فإنها إن أصابها الطل حسنت ، وإن أصابها الوابل أضعفت ، فكذلك نفقة المؤمن المخلص ، انتهى ، وقوله : ( فطل ) جواب للشرط ، فيحتاج إلى تقدير بحيث تصير جملة ، فقدره المبرد مبتدأ محذوف الخبر لدلالة المعنى عليه ، أي : فطل يصيبها ، وابتدئ بالنكرة ؛ لأنها جاءت في جواب الشرط . وذكر بعضهم أن هذا من مسوغات جواز الابتداء بالنكرة ، ومثله ما جاء في المثل : إن ذهب عير فعير في الرباط . وقدره غير المبرد خبر مبتدأ محذوف ، أي : فالذي يصيبها ، أو فمصيبها طل ، وقدره بعضهم فاعلا ، أي : فيصيبها طل ، وكل هذه التقادير سائغة ، والآخر يحتاج فيه إلى حذف الجملة الواقعة جوابا ، وإبقاء معمول لبعضها ؛ لأنه متى دخلت الفاء على المضارع فإنما هو على إضمار مبتدأ ، كقوله تعالى : ( ومن عاد فينتقم الله منه ) أي : فهو ينتقم ، فكذلك يحتاج إلى هذا التقدير هنا أي : فهي ، أي : الجنة يصيبها طل ، وأما في التقديرين السابقين فلا يحتاج إلا إلى حذف أحد جزئي الجملة ، ونظير ما في الآية قوله :


ألا إن لا تكن إبل فمعزى     كأن قرون جلتها العصي



( والله بما تعملون بصير ) قرأ الزهري بالياء ، فظاهره أن الضمير يعود على المنافقين ، ويحتمل أن يكون عاما فلا يختص بالمنافقين ، بل يعود على الناس أجمعين ، وقرأ الجمهور بالتاء ، على الخطاب ، وفيه التفات ، والمعنى : أنه تعالى لا يخفى عليه شيء من الأعمال والمقاصد من رياء وإخلاص ، وفيه وعد ووعيد .

التالي السابق


الخدمات العلمية