الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
( ولو شاء الله ما اقتتل الذين من بعدهم من بعد ما جاءتهم البينات ) قيل : في الكلام حذف ، التقدير : فاختلف أممهم واقتتلوا . ( ولو شاء الله ) ومفعول ( شاء ) محذوف تقديره : أن لا تقتتلوا ، وقيل : أن لا يأمر بالقتال ، قاله الزجاج ، وقال مجاهد : أن لا تختلفوا الاختلاف الذي هو سبب القتال ، وقيل : ولو شاء الله أن يضطرهم إلى الإيمان فلم يقتتلوا ، وقال أبو علي بأن يسلبهم القوى والعقول التي يكون بها التكليف ، ولكن كلفهم فاختلفوا بالكفر والإيمان . وقال علي بن عيسى : هذه مشيئة القدرة ، مثل : ( ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعا ) ولم يشأ ذلك ، وشاء تكليفهم فاختلفوا ، وقال الزمخشري : ولو شاء الله مشيئة إلجاء وقسر ، وجواب ( لو ) ( ما اقتتل ) وهو فعل منفي بـ ( ما ) فالفصيح أن لا يدخل عليه اللام كما في الآية ، ويجوز في القليل أن تدخل عليه اللام ، فتقول : لو قام زيد لما قام عمرو ، و ( من بعدهم ) صلة للذين ، فيتعلق بمحذوف أي : الذين كانوا من بعدهم ، والضمير عائد على الرسل ، وقيل : عائد على موسى وعيسى وأتباعهما ، وظاهر الكلام أنهم القوم الذين كانوا من بعد جميع الرسل ، وليس كذلك ، بل المراد : ما اقتتل الناس بعد كل نبي ، فلف الكلام لفا لم يفهمه السامع وهذا كما تقول : اشتريت خيلا ثم بعتها ، وإن كنت قد اشتريتها فرسا فرسا وبعته ، وكذلك هذا ، إنما اختلف بعد كل نبي ، و ( من بعد ) قيل : بدل من ( بعدهم ) ، والظاهر أنه متعلق بقوله : ( ما اقتتل ) إذ كان في البينات - وهي الدلائل الواضحة - ما يفضي إلى الاتفاق وعدم التقاتل ، وغنية عن الاختلاف الموجب للتقاتل .

( ولكن اختلفوا ) هذا الاستدراك واضح ؛ لأن ما قبلها ضد لما بعدها ؛ لأن المعنى : لو شاء الاتفاق لاتفقوا ، ولكن شاء الاختلاف فاختلفوا .

( فمنهم من آمن ومنهم من كفر ) من آمن بالتزامه دين الرسل واتباعهم ، ومن كفر بإعراضه عن اتباع الرسل حسدا وبغيا واستئثارا بحطام الدنيا . ( ولو شاء الله ما اقتتلوا ) قيل : الجملة تكررت توكيدا للأولى ، قاله الزمخشري . وقيل : لا توكيد لاختلاف المشيئتين ، فالأولى : ولو شاء الله أن يحول بينهم وبين القتال بأن يسلبهم القوى والعقول ، والثانية : ولو شاء الله أن يأمر المؤمنين بالقتال ، ولكن أمر وشاء أن يقتتلوا ، وتعلق بهذه الآية مثبتو [ ص: 275 ] القدر ونافوه ، ولم يزل ذلك مختلفا فيه حتى كان الأعشى في الجاهلية نافيا حيث قال :


استأثر الله بالوفاء وبالـ عدل وولى الملامة الرجلا



وكان لبيد مثبتا حيث قال :


من هداه سبل الخير اهتدى     ناعم البال ومن شاء أضل



( ولكن الله يفعل ما يريد ) هذا يدل على أن ما أراد الله فعله فهو كائن لا محالة ، وإن إرادة غيره غير مؤثرة ، وهو تعالى المستأثر بسر الحكمة فيما قدر وقضى من خير وشر ، وهو فعله تعالى . وقال الزمخشري : ولكن الله يفعل ما يريد من الخذلان والعصمة ، وهذا على طريقة الاعتزالية . قيل : وتضمنت هذه الآية الكريمة من أنواع البلاغة التقسيم ، في قوله : ( منهم من كلم الله ) بلا واسطة ، ومنهم من كلمه بواسطة ، وهذا التقسيم اقتضاه المعنى ، وفي قوله ( فمنهم من آمن ومنهم من كفر ) وهذا التقسيم ملفوظ به . والاختصاص مشارا إليه ومنصوصا عليه ، والتكرار في لفظ البينات ، وفي ( ولو شاء الله ما اقتتلوا ) على أحد التأويلين . والحذف ، في قوله ( منهم من كلم الله ) أي : كفاحا ، وفي قوله ( يفعل ما يريد ) يعني من هداية من شاء وضلالة من شاء .

التالي السابق


الخدمات العلمية