الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
ولهذا يجب الوفاء بالنذر إذا كان المنذور طاعة، وإن كان نفس النذر منهيا عنه، كما أن العبد منهي عن الظهار، وإذا ظاهر لزمته الكفارة، فالمنهي عنه إن كان فيه إيجاب أو تحريم لزم المنهي عقوبة له، وإن كان فيه إباحة لم تبح، لأن المنهي عنه معصية، والمعصية لا تكون سببا للمنعة الشرعية. وفي صحيح البخاري عن عائشة رضي الله عنها عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "من نذر أن يطيع الله فليطعه، ومن نذر أن يعصيه فلا يعصه". وعلى هذا اتفق أهل العلم، اتفقوا على أن المنذور إذا كان طاعة -كالصلاة الشرعية والحج الشرعي والصيام الشرعي والصدقة الشرعية والعتق الشرعي ونحو ذلك- فإنه يوفى به، وإذا كان المنذور معصية لم يجز الوفاء به، لكن هل عليه كفارة يمين؟ على قولين للعلماء، أحدهما: لا شيء عليه، وهو قول أبي حنيفة ومالك والشافعي؟ والثاني: عليه كفارة يمين، وهو ظاهر مذهب أحمد، لما في الصحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "كفارة [ ص: 130 ] النذر كفارة يمين". وفي السنن عنه: "لا نذر في معصية، وكفارته كفارة يمين".

وإذا كان كذلك فمن نذر زيتا لقبر ليسرج عليه أو للعاكفين عند القبر وسدنة القبر ونحوهم فهذا نذر معصية، فإن الإيقاد على القبور منهي عنه، والعكوف عند القبور والمجاورة عندها منهي عنه، والإعانة على ذلك إعانة على الإثم والعدوان. ولا يشك أحد من العلماء أنه ليس بطاعة ولا بر، وإذا لم يكن كذلك فلا يجب الوفاء بهذا النذر باتفاق المسلمين، فإن الوفاء إنما يجب بنذر الطاعة، لا بنذر المباح ولا المكروه ولا المحرم، بل تنازع العلماء: هل يجب بنذر كل طاعة أو نذر ما كان جنسه واجبا بالشرع؟ فقال الأكثرون كمالك والشافعي وأحمد بالأول؟ وقال أبو حنيفة بالثاني، ولهذا لا يجب عنده الوفاء إذا نذر إتيان مسجد المدينة أو مسجد بيت المقدس، لأن جنس ذلك ليس واجبا بالشرع بخلاف إتيان مكة للحج والعمرة، فإن الوفاء بذلك لا نزاع فيه، لأن جنس الحج والعمرة واجب بالشرع؛ وعلى قول الجمهور يوفى بالنذر في إتيان مسجد المدينة والمسجد الأقصى لمن يقصد الصلاة هناك أو الاعتكاف، لكن إذا أتى الفاضل أغنى عن المفضول، فمن أتى في نذره ذلك المسجد الحرام أغناه عن الآخرين، ومن أتى مسجد المدينة أغناه عن الأقصى، وأما المسجد الحرام فهو أفضل المساجد، لا يقوم غيره مقامه، به الطواف، وإليه الصلاة والحج. [ ص: 131 ]

ولا ثواب على إعانة العاكفين على القبور والمجاورين عندها بصدقة ولا غيرها، لا من العوام والفقراء ولا غيرهم. ولا يصلح قصد المقابر للاجتماع على صلاة ولا قراءة ولا غيرها، فإن هذا أعظم من صلاة الآحاد عندها، وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما رواه أبو داود في سننه : "لا تتخذوا قبري عيدا". وهذا اتخاذ القبر عيدا يعاد إليه فيجتمع عنده. ولم يقل أحد من علماء المسلمين أن الاجتماع هناك لقراءة القرآن أفضل من الاجتماع للقراءة في المساجد والبيوت، بل اتفق المسلمون على أن الاجتماع لقراءة القرآن في المساجد والبيوت أفضل من الاجتماع لقراءته في مشاهد القبور. وفي الصحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا غشيتهم الرحمة، ونزلت عليهم السكينة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده".

التالي السابق


الخدمات العلمية