الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
فقول القائل: "إذا تأولنا هذه الآيات احتملت هذه الأحاديث أيضا التأويل" حقيقته أنا إذا نفينا عن النصوص أن يراد بها معنى فاسد بين الله تنزهه عنه في موضع آخر، وجب [أن] ننفي عن نصوص أخرى معاني ونفسرها بأمور من غير أن يدل القرآن والسنة لا على نفي هذا ولا على إرادة هذا، ومعلوم أن هذا باطل سواء سماه تأويلا أو لم يسمه، لوجوه:

أحدها: أن ما نفي من المعاني الفاسدة هناك نفاه القرآن، فإن بينوا في بقية النصوص معنى فاسدا نفاه القرآن وجب نفيه أيضا.

الثاني: أن ما فسروا به تلك النصوص هو تفسير يوافق سائر النصوص، لتفسيرهم لها بأن الله إله من في السماء وإله من في الأرض، وأنه بكل شيء عليم، ونحو ذلك. وأما تأويلات الجهمية فهي متناقضة، منها قولهم : "استوى" بمعنى استولى، فإن هذا فاسد من قريب عشرين وجها مذكورة في غير هذا الموضع . [ ص: 174 ]

وقولهم "ينزل أمره أو ملك"، فإن هذا فاسد من وجوه كثيرة، فكيف يقاس تأويل فاسد على تأويل صحيح. وهذا كله إذا تنزلنا وسمينا ذلك تأويلا بحسب فهم هذا الفاهم، وإلا فالصواب هو:

الوجه الثالث: وهو أن يقال: إذا فهم بعض الناس من كلام الله معنى فاسدا -مثل فهمهم كون المعية تقتضي المخالطة، وأن الحجر صفة الله، وزعم أنه ظاهره- رد عليه هذا الفهم، وقيل له: هذا خطأ في فهمك، وإلا فالنص لم يدل على ذلك، ولا هذا ظاهر النص. وظاهر الخطاب الذي هو مدلوله ومعناه يعلم تارة بمفردات ألفاظه وموضوعها، وتارة بالتركيب وبما اقترن بالمفردات من التركيب الذي يبين المراد ويظهر معنى الخطاب، وتارة بالسياق الذي سيق له الكلام.

وإذا كان كذلك لم نسلم أن هذا تأويل، فإن أصر على تسمية هذا تأويلا كان نزاعا لفظيا، وقيل له: ذلك تأويل يوافق مدلول النص ومقتضاه، وهذا تأويل يخالف مدلوله ومقتضاه، وكل تأويل كان من القسم الأول نقول به، وإنما نرد التأويل الذي يخالف مدلول كلام الله ومقتضاه.

الجواب الرابع

أن الناس متفقون على أنه لا يسوغ كل تأويل، من التأويلات ما هو مردود، مثال ذلك أن الأشعري يرد تأويل المعتزلي لعلم الله وقدرته وسمعه وبصره وتكليمه ومشيئته، ويثبت هذه الصفات حقيقة؛ والمعتزلي يرد تأويل المتفلسف في معاد الأبدان والأكل والشرب في الجنة؟ والفيلسوف يرد تأويل القرمطي في الصلاة والزكاة والصوم والحج؟ والقرمطي يرد تأويلات الجمهور الذين ينازعونه فيها. [ ص: 175 ]

وإذا كان كذلك قيل لكل من هؤلاء: بأي شيء رددت بعض التأويلات وقبلت بعضها؟ فلا يذكر شيئا إلا عورض حتى يبين له تناقضه وفساد أصله.

فمن كان من المتأولين يتأول المحبة والرضا والغضب ونحو ذلك، ويقرر الإرادة ونحوها، قيل له: ما الفرق بين ما قررته وبين ما تأولته؟

فإن قال: لأن الغضب هو غليان دم القلب لطلب الانتقام، وذلك لا يليق بالله.

قيل له: هذا غضبنا، وغضب الله ليس مثل غضبنا، بل يقال له:

هذا هو مقتضى الغضب فينا أو موجبه، ليس هو نفس الغضب، والله تعالى لا يوصف بما نحتاج إليه نحن في ثبوت الصفات، فإنه عليم، ولا يحتاج في علمه إلى النظر والاستدلال الذي يحصل لنا العلم، وهو قدير ولا يحتاج إلى مزاج وعلاج يحصل له القوة، وهو بصير ولا يحتاج إلى شحمة، وهو متكلم ولا يحتاج إلى لسان وشفتين.

فكذلك غضبه لا يفتقر إلى ما يفتقر إليه غضبنا.

فإن قال: أنا لا أعرف الغضب إلا هكذا.

قيل له: فتأول الإرادة، فإن الإرادة فينا هي ميل القلب إلى جلب ما ينفعه أو دفع ما يضره، والله تعالى لا يوصف بذلك.

فإن قال: إرادته ليست كإرادتنا.

قيل له: فقل في الغضب كذلك، وهكذا في سائر الصفات.

التالي السابق


الخدمات العلمية