الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
وأما قراءة القرآن في الأسواق والجباية على ذلك فهذا منهي عنه من وجهين:

أحدهما: من جهة قراءته لمسألة الناس، ففي الحديث: "اقرأوا القرآن واسألوا به الله قبل أن يجيء أقوام يقرأونه يسألون به الناس" . [ ص: 138 ]

والثاني: من جهة ما في ذلك من ابتذال القرآن بقراءته لمن لا يستمع إليه ولا يصغي إليه.

وأما قوله - صلى الله عليه وسلم - "إن الميت يعذب ببكاء أهله، ومن نيح عليه يعذب بما يناح عليه" فهذا حديث صحيح ثابت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من رواية عمر بن الخطاب وابنه والمغيرة بن شعبة وغيرهم ، ولكن أشكل معناه على طوائف حتى تفرقوا فيه:

فمنهم من طعن فيه؛ وظن أن راويه لم يحفظه، كما قالت عائشة ومن معها، كالشافعي في كتاب "مختلف الحديث" . ثم روت عائشة لفظين: أحدهما مناسب معناه، وهو قوله: "إن الله يزيد الكافر ببكاء أهله عليه"، وجعلوا الموجب لضعفه قوله تعالى: ولا تزر وازرة وزر أخرى .

وأما جماهير السلف والخلف فعلموا أن مثل هذا التأويل لا يصلح أن يرد به أحاديث ثابتة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وإن كانوا من صغار الصحابة كجابر وأبي سعيد، فكيف بما يرويه عمر ونحوه؟ وذلك أن قوله ولا تزر وازرة وزر أخرى إنما فيه أن المذنب لا يحمل ذنبه غيره، وهذا حق لا يخالف معنى الحديث، فإن الحديث ليس فيه أن الميت يحمل ذنب الحي، بل الحي النائح يعاقب على نياحته عقوبة لا يحملها عنه الميت، كما دل على ذلك القرآن. وأما كون الميت يتألم [ ص: 139 ] بعمل غيره فهذا شيء آخر، كما أنه ينعم بعمل غيره لشيء آخر لا ينافي قوله وأن ليس للإنسان إلا ما سعى .

ومن الناس من تأول على ما إذا لم ينه عنه مع اعتيادهم له، فيكون ذلك إقرارا للمنكر يعذب عليه. وهؤلاء ظنوا أن عذاب الميت عقوبة، والعقوبة لا تكون إلا على ذنب، فاحتاجوا أن يجعلوا للميت ذنبا يعاقب عليه، وليس كذلك، بل العذاب قد يكون عقابا على ذنب، وقد لا يكون. قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "السفر قطعة من العذاب" .

والنبي - صلى الله عليه وسلم - لم يقل: إنه يعاقب، بل يعذب.

وقد جاء ذلك مفسرا، كما رواه البخاري في صحيحه عن النعمان بن بشير قال: أغمي على عبد الله بن رواحة، فجعلت أخته تبكي واجبلاه! واكذا واكذا! تعد عليه، فقال حين أفاق: ما قلت شيئا إلا وقد قيل لي: أنت كذلك؟ فلما مات لم تبك عليه.

وعن أبي موسى أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إن الميت يعذب ببكاء الحي، إذا قالت النائحة: واعضداه! واناصراه! واكاسياه! جبذ الميت وقيل له: أنت عضدها؟ أنت ناصرها؟ أنت كاسيها؟ ". رواه الإمام أحمد في المسند .

وروى الترمذي عن أبي موسى أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "ما من [ ص: 140 ] ميت يموت فيقوم باكيهم فيقول: واجبلاه! واسنداه! أو نحو ذلك إلا وكل به ملكان يلهزانه أهكذا أنت؟ ". قال الترمذي: حديث حسن غريب.

وفي سنن أبي داود أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لنسوة في جنازة: "ارجعن مأزورات غير مأجورات، فإنكن تفتن الحي وتؤذين الميت".

فهذا ونحوه هو تعذيب الميت بالنياحة. والحي في الدنيا قد يعذب بما يراه ويسمعه ويشمه من أمور منفصلة عنه، وهو التعذيب الذي يلحق من جنس سائر ما يلحقه من هول الفتنة والضغطة وهول القيامة وغير ذلك من أنواع الآلام. والكلام في هذا مبسوط في غير هذا الموضع .

التالي السابق


الخدمات العلمية