الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
وكذلك تخيير الآكل والشارب بين أنواع الأطعمة والأشربة المباحة، وإن كان نفس الأكل والشرب واجبا عند الضرورة، حتى إذا تعين المأكول وجب أكله وإن كان ميتة، فمن اضطر إلى أكل الميتة وجب عليه أكلها في المشهور عن الأئمة الأربعة وغيرهم من أهل العلم.

وكذلك تخيير الحاج بين التمتع والإفراد والقران عند الجمهور الذين يخيرون الثلاثة. وتخيير المسافر بين الفطر والصوم عند الجمهور.

وأما من يقول: لا يجوز أن يحج إلا متمتعا، وأنه يتعين الفطر في السفر، كما يقوله طائفة من السلف والخلف من أهل السنة والشيعة، فلا يجيء هذا على أصلهم. وكذلك القصر عند الجمهور [ ص: 410 ] الذين يقولون: ليس للمسافر أن يصلي إلا ركعتين، ليس له أن يصلي أربعا، فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يصل في السفر قط إلا ركعتين، ولا أحد من أصحابه في حياته. وحديث عائشة التي تذكر فيه أنه أو أنها صلت في حياته في السفر أربعا كذب عند حذاق أهل العلم بالحديث، كما قد بسط في موضعه .

إذ المقصود هنا أن التخيير في الشرع نوعان، فمن خير فيما يفعله لغيره بولايته عليه، أو بوكالة مطلقة، لم يبح له فيها فعل ما شاء، فعليه أن يختار الأصلح. وأما من تصرف لنفسه، فتارة يأمره الشارع باختيار ما هو الأصلح بحسب اجتهاده، كما يأمر المجتهد بطلب أقوى الآراء بل وأصلح الأحكام في نفس الأمر. وتارة يبيح له ما شاء من الأنواع التي خير بينهما، كما تقدم. هذا إذا كان مكلفا.

وأما الصبي المميز فيخير تخيير شهوة، حيث كان كل من الأبوين نظير الآخر، ولم ينضبط في حقه حكم عام للأب أو الأم، فلا يمكن أن يقال: كل أب فهو أصلح للمميز من الأم، ولا كل أم فهي أصلح له من الأب. بل قد يكون بعض الآباء أصلح، وبعض الأمهات أصلح، وقد يكون الأب أصلح في حال، والأم أصلح في حال. فلم يمكن أن يعتبر أحدهما في هذا. بخلاف الصغير، فإن الأم أصلح له من الأب، لأن النساء أوثق بالصغير وأخبر بتغذيته وحمله وتنويمه وتنويله، وأصبر على ذلك وأرحم به، فهي أقدر وأخبر وأرحم وأصبر في هذا الموضع. فتعينت الأم في حق الطفل غير المميز بالشرع.

ولكن بقي تنقيح المناط: هل عينهن الشارع لكون قرابة الأم [ ص: 411 ] مقدمة على قرابة الأب في الحضانة أو لكون النساء أقوم بمقصود الحضانة من الرجال؟ وهذا فيه قولان للعلماء، يظهر أثرهما في تقديم نساء العصبة على أقارب الأم، مثل: أم الأم، وأم الأب، والأخت من الأم، والأخت من الأب، ومثل: العمة والخالة، ونحو ذلك.

هذا فيه قولان هما روايتان عن أحمد.

وأرجح القولين في الحجة تقديم نساء العصبة، فتقدم الأخت من الأب على الأخت من الأم، وخالة الأب على خالة الأم. وهو الذي ذكره الخرقي في "مختصره" وأبو الحسن الآمدي وغيرهما من الأصحاب.

وعلل ذلك من علله -كأبي الحسن الآمدي- في مثل تقديم خالة الأب على خالة الأم، فإن قرابتها فيها رحم وتعصيب، بخلاف قرابة الأم، فإن فيها رحما بلا تعصيب. فأم الأب مقدمة على أم الأم، والأخت من الأب مقدمة على الأخت من الأم، والعمة مقدمة على الخالة. كما يقدم أقارب الأب من الرجال على أقارب الأم، فالأخ للأب أولى من الأخ للأم، والعم أولى من الخال. بل قد قيل: إنه لا حضانة للرجال من أقارب الأم بحال، وإن الحضانة لا تثبت إلا لرجل من العصبة أو لامرأة وارثة، أو مدلية بعصبة أو وارث، فإن عدموا فالحاكم.

وعلى الوجه الثاني فلا حضانة للرجال في أقارب الأم. وهذان الوجهان في مذهب الشافعي وأحمد. فلو كانت جهة الأمومة راجحة لترجح رجالها ونساؤها، فلما لم يترجح رجالها بالاتفاق فكذلك نساؤها.

التالي السابق


الخدمات العلمية