الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
قلت: للعلماء في الجزية هل هي مقدرة بالشرع أو باجتهاد الإمام أن يزيد على أربعة دنانير؟ [قولان] ، وهذه إحدى الروايتين عن أحمد، وهي مذهب عطاء والثوري ومحمد بن الحسن وأبي عبيد وغيرهم.

قال: واتفقوا أنه لا ينفل من ساق مغنما أكثر من ربعه في الدخول، ولا أكثر من ثلثه في الخروج.

قلت: في جواز تنفيل ما زاد على ذلك إذا اشترطه الإمام، مثل أن يقول: من فعل كذا فله نصف ما يغنم، قولان هما روايتان عن أحمد. وأما تنفيل الزيادة بلا شرط فلا أعلم فيه نزاعا، ويمكن أن يحمل كلام أبي محمد ابن حزم على هذا، فلا يكون فيما ذكره نزاع.

قال: واتفقوا أن الحر البالغ العاقل الذي ليس بسكران، إذا أمن [ ص: 337 ] أهل الكتاب الحربيين على أداء الجزية على الشروط التي قدمنا أو على الجلاء، أو أمن سائر الكفار على الجلاء بأنفسهم وعيالهم وذراريهم، وترك بلادهم، واللحاق بأرض حرب أخرى، لا بأرض ذمة ولا بأرض إسلام، أن ذلك لازم لأمير المؤمنين ولجميع المسلمين حيث كانوا.

قلت: ظاهر مذهب الشافعي أنه لا يصح عقد الذمة إلا من الإمام أو نائبه. وهذا هو المشهور عند أصحاب أحمد، وفيه وجه في المذهبين أنها تصح من كل مسلم كما ذكره ابن حزم.

قال: واتفقوا أن أولاد أهل الجزية ومن تناسل منهم، فإن الحكم الذي عقده أجدادهم -وإن بعدوا- جار على هؤلاء لا يحتاج إلى تجديده مع من حدث منهم.

قلت: هذا هو قول الجمهور، ولأصحاب الشافعي وجهان: أحدهما يستأنف له العقد، وهذا منصوص الشافعي، والثاني لا يحتاج إلى استئناف عقد، كقول الجمهور.

قال: واتفقوا على أنه لا يجوز أن يكون على المسلمين في وقت واحد في جميع الدنيا إمامان، لا متفقان ولا مفترقان، لا في مكانين ولا في مكان واحد.

قلت: النزاع في ذلك معروف بين المتكلمين في هذه المسألة، كأهل الكلام والنظر، فمذهب الكرامية وغيرهم جواز ذلك، وأن عليا كان إماما ومعاوية كان إماما. وأما أئمة الفقهاء فمذهبهم أن كلا منهما ينفذ حكمه في أهل ولايته كما ينفذ حكم الإمام الواحد. وأما جواز العقد لهما ابتداء فهذا لا يفعل مع اتفاق الأمة، وأما مع تفرقتها فلم يعقد كل من الطائفتين لإمامين، ولكن كل طائفة إما أن تسالم [ ص: 338 ] الأخرى، وإما أن تحاربها، والمسالمة خير من محاربة يزيد ضررها على ضرر المسألة. وهذا مما تختلف فيه الآراء والأهواء.

قال: واتفقوا أنه إذا كان الإمام من ولد علي، وكان عدلا، ولم يتقدم بيعته بيعة أخرى لإنسان حي، وقام عليه من دونه، أن قتال الآخر واجب.

قلت: ليس للأئمة في هذه بعينها كلام ينقل عنهم، ولا وقع هذا في الإسلام، إلا أن يكون في قصة علي ومعاوية. ومعلوم أن أكثر علماء الصحابة لم يروا القتال مع واحد منهما، وهو قول جمهور أهل السنة والحديث، وجمهور أهل المدينة والبصرة، وكثير من أهل الشام ومصر والكوفة وغيرهم من السلف والخلف.

وقد قال: إنما أدخلنا هذا الاتفاق على جوازه لخلاف الزيدية، هل تجوز إمامة غير علوي أم لا؟ وإن كنا مخطئين لهم في ذلك ومعتقدين صحة بطلان هذا القول، وأن الإمامة لا تتعدى فهر بن مالك، وأنها جائزة في جميع أفخاذهم، ولكن لم يكن بد في صفة الإجماع الجاري عند الكل مما ذكرنا.

قلت: قد ذكر هو أنه لا يذكر إلا خلاف أهل الفقه والحديث دون المعتزلة والخوارج والرافضة ونحوهم. فلا معنى لإدخال الزيدية في الخلاف وفتح هذا الباب، فقد ذكر في كتابه "الملل والنحل" نزاعا في ذلك، وأن طائفة ادعت النص على العباس، وطائفة ادعت النص على عمر.

قال: واتفقوا أن من خالف الإجماع المتيقن بعد علمه بأنه إجماع فإنه كافر. [ ص: 339 ]

قلت: في ذلك نزاع مشهور بين الفقهاء.

قال: واتفقوا أن السمن إذا وقع فيه فأر أو فأرة، فمات أو ماتت وهو مائع، أنه لا يؤكل.

قلت: هذا فيه نزاع معروف، فمذهب طائفة أنه يلقى ما قرب منها ويؤكل، سواء كان جامدا أو مائعا. قال البخاري في صحيحه : باب إذا وقعت الفأرة في السمن الجامد أو الذائب. حدثنا الحميدي حدثنا سفيان حدثنا الزهري أخبرني عبيد الله بن [عبد الله بن] عتبة أنه سمع ابن عباس يحدث عن ميمونة أن فأرة وقعت في سمن فماتت، فسئل النبي - صلى الله عليه وسلم - عنها فقال: "ألقوها وما حولها، وكلوه". قيل لسفيان: فإن معمرا يحدثه عن الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة، قال: سمعت الزهري يقوله عن عبيد الله عن ابن عباس عن ميمونة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولقد سمعته منه مرارا.

حدثنا عبدان حدثنا عبد الله -يعني ابن المبارك- عن يونس عن الزهري: عن الدابة تموت في الزيت والسمن وهو جامد أو غير جامد، الفأرة أو غيرها. قال: بلغنا أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمر بفأرة ماتت في سمن، فأمر بما قرب فطرح، ثم أكل. عن حديث عبيد الله بن عبد الله. ثم رواه من طريق مالك كما رواه من طريق ابن عيينة.

وهذا الحديث رواه عن الزهري كما رواه ابن عيينة بسنده ولفظه.

وأما معمر فاضطرب فيه في سنده ولفظه، فرواه تارة عن ابن المسيب عن أبي هريرة، وقال فيه: "إن كان جامدا فألقوها وما حولها، وإن [ ص: 340 ] كان مائعا فلا تقربوه". وقيل عنه: "وإن كان مائعا فاستصحبوا به". واضطرب عن معمر فيه.

وظن طائفة من العلماء أن حديث معمر محفوظ، فعملوا به، وممن ثبته محمد بن يحيى الذهلي فيما جمعه من حديث الزهري.

وأما البخاري والترمذي وغيرهما فعللوا حديث معمر وبينوا غلطه، والصواب معهم . فذكر البخاري هنا عن ابن عيينة أنه قال: سمعته من الزهري مرارا لا يرويه إلا عن عبيد الله بن عبد الله، وليس في لفظه إلا قوله "ألقوها وما حولها وكلوا"، وكذلك رواه مالك وغيره. وذكر من حديث يونس أن الزهري سئل عن الدابة تموت في السمن الجامد وغير الجامد، فأفتى بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر بفأرة ماتت في سمن فأمر بما قرب منها فطرح. فهذه فتيا الزهري في الجامد وغير الجامد، فكيف يكون قد روى في هذا الحديث استواء حكم النوعين بالحديث، ورواه بالمعنى فقال: "وأمر أن يطرح وما قرب منها"؟.

وروى صالح بن أحمد في "مسائله" عن أحمد قال: حدثنا أبي حدثنا إسماعيل حدثنا عمارة بن أبي حفصة عن عكرمة أن ابن عباس سئل عن فأرة ماتت في سمن، قال: تؤخذ الفأرة وما حولها.

قلت: يا مولاي! فإن أثرها كان في السمن كله، قال: عضضت بهن أبيك! إنما كان أثرها في السمن وهي حية، وإنما ماتت حيث وجدت.

ثم قال: حدثنا أبي حدثنا وكيع حدثنا عن النضر بن عربي عن عكرمة قال: جاء رجل إلى ابن عباس، فسأله عن جر فيه زيت وقع [ ص: 341 ] فيه جرو، فقال: خذه وما حوله، فألقه وكله.

وروي نحو ذلك عن ابن مسعود -وهو إحدى الروايتين عن أحمد وإحدى الروايتين عن مالك- أن الكثير من الطعام والشراب المائع لا ينجسه يسير النجاسة، بل هو كالماء.

قال أبو محمد: واختلفوا في بيعه والانتفاع به، واختلفوا في المائعات وفي السمن الجامد وفي كل شيء جامد.

التالي السابق


الخدمات العلمية