الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
والله سبحانه له المثل الأعلى، كما قال تعالى: للذين لا يؤمنون بالآخرة مثل السوء ولله المثل الأعلى ، فكل ما يفهم للمخلوق من صفات كمال فالخالق أحق بها وأكمل في اقتضائه، كالعلم والقدرة والحياة والكلام ونحو ذلك. وكل ما نزه عنه شيء من المخلوقات من صفات النقص فالخالق أحق بأن ينزه عن ذلك. فإذا كان أهل الجنة لا ينامون ولا يموتون، فالحي القيوم أحق بأن لا تأخذه سنة ولا نوم. وهو الغني المطلق عما سواه، فكل ما سواه يفتقر إليه، وهو غني عن كل ما سواه.

وهو سبحانه مع أنه مستو على عرشه عال على خلقه فهو الذي يمسك السماوات والأرض أن تزولا، وسع كرسيه السماوات والأرض، ولا يؤوده حفظهما. فالعرش وحملته هو الذي يمسكهم بقوته ومشيئته، بل قد جاء في الأثر أن الله لما خلق العرش وأمر الملائكة بحمله [ ص: 188 ] قالوا: ربنا! من يطيق حمل عرشك وعليك عظمتك؟ فقال: قولوا: لا حول ولا قوة إلا بالله، فبذلك أطاقوا حمل العرش.

والله سبحانه قد جعل الأعلى من المخلوقات مستغنيا عن الأسفل، فالسماوات فوق الأرض وليست محتاجة إلى الأرض ولا مفتقرة إلى أن تحملها، فالخالق العلي الأعلى كيف يفتقر إلى العرش أو حملته فوق العرش أو إلى غيره من المخلوقات؟ فلو كان محايثا لخلقه لكان وجوده مشروطا بوجود ذلك المحايث، بل كانت ذاته مفتقرة إلى محايث، سواء كان محايثته من جنس محايثة العرض للعرض أو جنس محايثة العرض للجسم، أو من جنس ما يدعيه من يقول بمحايثة الصورة الجوهرية للمادة الجوهرية. وهذا هو المعقول من المحايثات، ولهذا كان القائلون بحلوله في المخلوقات أو اتحاده بها من الجهمية تعود مقالتهم إلى مثل هذا، فآخر أمرهم يجعلونه مع المخلوقات كالمادة مع الصورة، أو كالعرض مع الجسم، حتى قالوا: وجوده وجود المخلوقات، إذ قالوا: إن الماهيات ثابتة بدونه، كما يقوله ابن عربي صاحب "الفصوص" الموافق للمعتزلة في قولهم: إن المعدوم شيء، فإما أن يجعلوا الوجود صفة للإنسان أو قائما بنفسه مع الأعيان. وكلام ابن سبعين يرجع إلى هذا، فإنه كان متفلسفا، فيجعله مع المخلوق بمنزلة المادة والصورة.

ومن جعله الوجود المطلق، والأعيان لها التعين، فإن جعل للأعيان ماهيات ثابتة في الخارج -كما يقوله من يقوله من المتفلسفة- فقد جعلوه مشروطا بتلك الماهيات، وهو معها إما كالجوهر مع الجوهر أو كالجوهر مع العرض.

وإن لم يجعل للأعيان ماهيات ثابتة، فالمطلق لا يكون في [ ص: 189 ] الخارج إلا عين المشخص، فافتقاره إلى الأعيان المخلوقة أعظم وأعظم، بل على هذا التقدير ليس مغايرا لها البتة. وقول التلمساني -وهو أحذقهم في مقالتهم التي هي وحدة الوجود- يرجع إلى هذا.

وعلى كل وجه يفرض من وجوه المحايثات فإنه يكون مشروطا بوجود المخلوقات، لا يتحقق ذاته بدون المخلوقات، وما كان كذلك لم يكن خالقا للمخلوقات، بل ولا يجوز أن يكون علة لها، فضلا عن أن يكون خالقا لها؛ لأن العلة متقدمة بالذات على المعلول، والمشروط بالشيء لا يكون متقدما عليه، إذ وجود المشروط المستلزم لشرطه قبل شرطه الملازم للإيجاب، فيمتنع أن يكون علة. بل ولا يكون واجب الوجود بنفسه، لأن نفسه لا تستغني في وجودها، بل لا بد لتحققها من ذلك الشرط اللازم لها المقرون بها، فيكون وجودها مفتقرا إلى وجود ذلك الشرط. ولأن محايثة القائم بنفسه محال، وما يذكره المتفلسفة من محايثة الصورة للمادة هو بناء منهم على أن تصور الأجسام مواد هي جواهر قائمة بنفسها. وهذا باطل لا حقيقة له.

التالي السابق


الخدمات العلمية