الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
فمن أبوابه العظيمة الغضب والشهوة ، فإن الغضب هو غول العقل وإذا ضعف جند العقل هجم جند الشيطان ومهما غضب الإنسان لعب الشيطان به كما يلعب الصبي بالكرة فقد روي أن موسى عليه السلام لقيه إبليس فقال له : يا موسى أنت الذي اصطفاك الله برسالته وكلمك تكليما ، وأنا خلق من خلق الله أذنبت وأريد أن أتوب ، فاشفع لي إلى ربي أن يتوب علي فقال موسى : نعم فلما صعد ، موسى الجبل وكلم ربه عز وجل وأراد النزول قال له ربه: أد الأمانة، فقال موسى: يا رب عبدك إبليس يريد أن تتوب عليه ، فأوحى الله تعالى إلى موسى يا موسى : قد قضيت حاجتك ، مره أن يسجد لقبر آدم حتى يتاب عليه فلقي موسى إبليس ، فقال له : قد قضيت حاجتك أمرت أن تسجد لقبر آدم حتى يتاب عليك فغضب واستكبر وقال : لم أسجد له حيا أأسجد له ميتا؟ ثم قال: يا موسى ، إن لك علي حقا بما شفعت لي إلى ربك ، فاذكرني عند ثلاث لا أهلكك فيهن : اذكرني حين تغضب ، فإن روحي في قلبك ، وعيني في عينك ، وأجري منك مجرى الدم اذكرني إذا غضبت فإنه إذا غضب الإنسان نفخت في أنفه فما يدري ما يصنع ، واذكرني حين تلقى الزحف فإني آتي ابن آدم حين يلقى الزحف ، فأذكره زوجته وولده وأهله حتى يولي وإياك أن تجلس إلى امرأة ليست بذات محرم فإني ، رسولها إليك ، ورسولك إليها فلا أزال حتى أفتنك بها وأفتنها بك فقد أشار بهذا إلى الشهوة والغضب والحرص ، فإن الفرار من الزحف حرص على الدنيا ، وامتناعه من السجود لآدم ميتا هو الحسد وهو أعظم مداخله وقد ذكر أن بعض الأولياء قال لإبليس : أرني كيف تغلب ابن آدم ، فقال : آخذه عند الغضب وعند الهوى فقد حكي أن إبليس ظهر لراهب فقال له الراهب : أي أخلاق بني آدم أعون لك قال : الحدة فإن العبد إذا كان حديدا قلبناه كما يقلب الصبيان الكرة ، وقيل : إن الشيطان يقول : كيف يغلبني ابن آدم ، وإذا رضي جئت حتى أكون في قلبه ، وإذا غضب طرت حتى أكون في رأسه .

ومن أبوابه العظيمة الحسد والحرص ، فمهما كان العبد حريصا على كل شيء أعماه حرصه وأصمه ؛ إذ قال صلى الله عليه وسلم - : حبك للشيء يعمي ويصم ونور البصيرة هو الذي يعرف مداخل الشيطان ، فإذا غطاء الحسد والحرص لم يبصر فحينئذ يجد الشيطان فرصة فيحسن عند الحريص كل ما يوصله إلى شهوته ، وإن كان منكرا وفاحشا فقد روي أن نوحا عليه السلام لما ركب السفينة حمل فيها من كل زوجين اثنين كما أمره الله تعالى ، فرأى في السفينة شيخا لم يعرفه فقال له نوح : ما أدخلك ? فقال : دخلت لأصيب قلوب أصحابك فتكون قلوبهم معي وأبدانهم معك ، فقال له نوح اخرج منها يا عدو الله ، فإنك لعين فقال له إبليس : خمس أهلك بهن الناس وسأحدثك منهم بثلاث ، ولا أحدثك باثنتين ، فأوحى الله تعالى إلى نوح أنه : لا حاجة لك بالثلاث ، فليحدثك بالاثنين فقال له نوح : ما الاثنتان ? فقال : هما اللتان لا تكذباني ، هما اللتان لا تخلفاني ، بهما أهلك الناس الحرص والحسد ، فبالحسد لعنت وجعلت شيطانا رجيما وأما الحرص ، فإنه أبيح لآدم الجنة كلها إلا الشجرة فأصبت حاجتي منه بالحرص .

التالي السابق


(ومن أبوابه العظيمة الحسد والحرص ، فمهما كان الحرص على كل شيء أعماه حرصه وأصمه؛ إذ قال - صلى الله عليه وسلم- : حبك الشيء يعمي ويصم) رواه أبو داود من حديث أبي الدرداء بإسناد ضعيف ، قاله العراقي .

قلت: وكذلك رواه العسكري في الأمثال ، كلاهما من طريق بقية بن الوليد ، عن أبي بكر بن عبد الله بن أبي مريم ، عن خالد بن محمد الثقفي ، عن بلال بن أبي الدرداء ، عن أبيه مرفوعا ، ولم ينفرد بقية ، فقد تبعه أبو حيدة شريح بن يزيد ، ومحمد بن حرب ، كما عند العسكري ويحيى البابلي ، كما عند القضاعي في مسنده ، وعصام بن خالد ومحمد بن مصعب كما عند أحمد في مسنده ، وابن أبي مريم ضعيف لا سيما وقد رواه أحمد عن ابن أبي مريم فوقفه، والأول أكثر ، وقد بالغ الصغاني فحكم عليه بالوضع وتعقبه العراقي بأن ابن أبي مريم لم يتهمه أحد بالكذب ، وإنما هو ضعيف ، ويكفي سكوت أبي داود عليه ، فليس بموضوع ولا شديد الضعف ، بل هو حسن .

* والمعنى " إن من الحب ما يعمي " عن طريق الرشد ، ويصم عن استماع الحق ، وإن الرجل إذا غلب الحب على قلبه ولم يكن له داع من عقل أو دين أصمه حبه عن العدل ، وأعماه عن الرشد ، قاله العسكري. وقيل: معناه يعمي ويصم عن الآخرة ، وفائدته النهي عن حب ما لا ينبغي الإغراق في حبه، (ونور البصيرة هو الذي يعرف مداخل الشيطان ، فإذا غطاه الحسد والحرص لم يبصر فحينئذ يجد الشيطان فرصة) أي: اختلاسا حذرا من فواته (فيحسن) أي: يزين (عند الحريص كل ما يوصله إلى شهوته ، وإن كان منكرا أو فاحشا) ، لكنه موافق لما تشتهيه نفسه، (فقد روي أن نوحا عليه السلام لما ركب السفينة حمل فيها من كل زوجين اثنين كما أمره الله تعالى ، فرأى في السفينة شيخا لم يعرفه فقال: ما أدخلك؟ فقال: دخلت لأصيب قلوب أصحابك فتكون قلوبهم معي وأبدانهم معك ، فقال له نوح) عليه السلام وقد عرفه: (اخرج منها يا عدو الله ، فإنك لعين) أي: مبعد عن رحمة الله، (فقال له إبليس: خمس أهلك بهن الناس وسأحدثك منهن بثلاث ، ولا أحدثك باثنتين ، فأوحى الله تعالى إلى نوح: لا حاجة لك بالثلاث، فليحدثك بالاثنتين فقال: ما الاثنتان؟ فقال: هما اللتان لا تكذباني، هما اللتان لا تخلفاني، بهما أهلك الناس جميعا الحرص والحسد ، فبالحسد لعنت وجعلت شيطانا رجيما) يشير إلى ما صنعه من إبائه للسجود

[ ص: 277 ] لآدم حسدا منه عليه، (وأما الحرص، فإنه أبيح لآدم الجنة كلها فأصبت حاجتي منه بالحرص) يشير إلى ما وقع منه من القربان إلى الشجرة المنهي عن أكلها ، وإنما كان ذلك حرصا على طول بقائه بتمنية الشيطان وإغرائه له .




الخدمات العلمية