الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
فإن قيل : فلو قصد الإنسان قطع طرف من نفسه ، وكان لا يمتنع عنه إلا بقتال ، ربما يؤدي إلى قتله ، فهل يقاتل عليه؟ فإن قلتم: يقاتل؛ فهو محال ؛ لأنه إهلاك نفس خوفا من إهلاك طرف ، وفي إهلاك النفس إهلاك الطرف أيضا ، قلنا يمنعه عنه ويقاتله إذ ليس غرضنا حفظ نفسه وطرفه، بل الغرض حسم سبيل المنكر والمعصية وقتله في الحسبة ليس بمعصية وقطع طرف نفسه معصية، وذلك كدفع الصائل على مال مسلم بما يأتي على قتله فإنه جائز لا على معنى أنا نفدي درهما من مال مسلم بروح مسلم ؛ فإن ذلك محال ، ولكن قصده لأخذ مال المسلمين معصية، وقتله في الدفع عن المعصية ليس بمعصية، وإنما المقصود دفع المعاصي فإن قيل : فلو علمنا أنه لو خلا بنفسه لقطع طرف نفسه ، فينبغي أن نقتله في الحال حسما لباب المعصية قلنا : ذلك لا يعلم يقينا ، ولا يجوز سفك دمه بتوهم معصية ، ولكنا إذا رأيناه في حال مباشرة القطع دفعناه ، فإن قاتلنا قاتلناه ، ولم نبال بما يأتي على روحه ، فإذا المعصية لها ثلاثة أحوال: .

إحداها : أن تكون متصرمة، فالعقوبة على ما تصرم منها حد أو تعزير، وهو إلى الولاة لا إلى الآحاد .

الثانية: أن تكون المعصية راهنة ، وصاحبها مباشر لها ، كلبسه الحرير ، وإمساكه العود والخمر فإبطال هذه المعصية واجب بكل ما يمكن ، ما لم تؤد إلى معصية أفحش منها أو مثلها وذلك يثبت للآحاد والرعية .

الثالثة : أن يكون المنكر متوقعا كالذي يستعد بكنس المجلس وتزيينه وجمع الرياحين لشرب الخمر وبعده لم يحضر الخمر، فهذا مشكوك فيه ؛ إذ ربما يعوق عنه عائق فلا يثبت للآحاد سلطنة على العازم على الشرب إلا بطريق الوعظ والنصح فأما بالتعنيف والضرب فلا يجوز للآحاد ولا للسلطان إلا إذا كانت تلك المعصية علمت منه بالعادة المستمرة وقد أقدم على السبب المؤدي إليها ، ولم يبق لحصول المعصية إلا ما ليس له فيه إلا الانتظار ، وذلك كوقوف الأحداث على أبواب حمامات النساء ؛ للنظر إليهن عند الدخول ، والخروج ؛ فإنهم وإن لم يضيقوا الطريق لسعته فتجوز الحسبة عليهم بإقامتهم من الموضع ومنعهم عن الوقوف بالتعنيف والضرب ، وكان تحقيق هذا إذا بحث عنه يرجع إلى أن هذا الوقوف في نفسه معصية ، وإن كان مقصد العاصي وراءه ، كما أن الخلوة بالأجنبية في نفسها معصية؛ لأنها مظنة وقوع المعصية ، وتحصيل مظنة المعصية معصية، ونعني بالمظنة ما يتعرض الإنسان به لوقوع المعصية غالبا، بحيث لا يقدر على الانكفاف عنها فإذا هو على التحقيق حسبة على معصية راهنة لا على معصية منتظرة .

التالي السابق


(فإن قيل: فلو قصد الإنسان قطع طرف من) أعضاء (نفسه، وكان لا يمتنع عنه إلا بقتال، ربما يؤدي إلى قتله، فهل) له أن (يقاتله عليه؟ فإن قلتم: يقاتل؛ فهو محال؛ لأنه إهلاك نفس خوفا من إهلاك طرف، وفي إهلاك النفس إهلاك الطرف أيضا، قلنا) في الجواب (يمنعه عنه) أي: عن قطع طرف (ويقاتله) عليه (إذ ليس غرضنا حفظ نفسه وطرفه، بل الغرض حسم سبيل المنكرات والمعاصي، وقتله في الحسبة ليس بمعصية، وقطعه طرف نفسه معصية، وذلك كدفع الصائل على مال مسلم بما يأتي على قتله) ويجر إليه؛ (فإنه جائز) شرعا (لا على معنى أنا نفدي درهما من مال مسلم بروح مسلم؛ فإن ذلك محال، ولكن قصده لأخذ مال المسلم معصية، وقتله في الدفع عن المعصية ليس بمعصية، وإنما المقصود دفع المعاصي) فليتفطن لهذا، (فإن قيل: فلو علمنا أنه لو خلا بنفسه لقطع طرف نفسه، فينبغي أن نقتله في الحال حسما لباب المعصية) ؛ لئلا يتأتى منه ذلك، (قلنا: ذلك لا يعلم يقينا، ولا يجوز سفك دمه بتوهم معصية، ولكنا إذا رأيناه في حال مباشرة القطع دفعناه، فإن قاتلنا) على الدفع (قاتلناه، ولم نبال بما يأتي على روحه، فإذا المعصية لها ثلاثة أحوال:

أحدها: أن تكون متصرمة، فالعقوبة على ما تصرم منها حد أو تعزير، وهو إلى الولاة) للأحكام (لا للآحاد) من الرعية .

(الثانية: أن تكون راهنة، وصاحبها مباشرا لها، كلبسه الحرير، وإمساكه العود) للغناء (والخمر) للشرب (فإبطال هذه المعصية واجب بكل ما يمكن، ما لم تؤد إلى معصية أفحش منها أو مثلها) في الفحش، (وذلك يثبت للآحاد والرعية) وفي نسخة: من الرعية .

(الثالثة: أن يكون المنكر متوقعا) في المستقبل (كالذي يستعد لكنس المجلس وتزيينه) بالفرش، وجمع الرياحين (لشرب الخمر، وبعد لم يحضر الخمر، فهذا مشكوك فيه؛ إذ ربما يعوق عنه عائق) أي: يمنع عنه مانع، (فلا يثبت للآحاد سلطنة على العازم على الشرب إلا بطريق الوعظ والنصح) ولين الكلام، (فأما بالتعنيف والضرب فلا يجوز للآحاد ولا للسلطان إلا إذا كانت تلك المعصية علمت منه بالعادة المستمرة) ، وأنه من شأنه ذلك، (وقد أقدم على السبب الذي يؤدي إليه، ولم يبق لحصول المعصية إلا ما ليس له فيه إلا الانتظار، وذلك كوقوف الأحداث) أي: الشباب المغتلمين (على أبواب حمام النساء؛ للنظر إليهن عند الدخول، والخروج؛ فإنهم وإن لم [ ص: 34 ] يضيقوا الطريق) على المارة (لسعته، فيجوز الحسبة عليهم بإقامتهم من المواضع) المذكورة، (ومنعهم من الوقوف فيها بالتعنيف والضرب، وكان تحقيق هذا إذا بحث عنه يرجع إلى أن هذا الوقوف في نفسه معصية، وإن كان مقصد العاصي وراءه، كما أن الخلوة) بالأجنبية (في نفسها معصية؛ لأنها مظنة وقوع المعصية، وتحصيل مظنة المعصية معصية، ونعني بالمظنة ما يتعرض الإنسان بها لوقوع المعصية غالبا، بحيث لا يقدر على الانكفاف عنها) ، والمعنى أنها من شأنها أن تحمله على المعصية، ولو لم تكن المعصية موجودة في الراهنة، وهكذا القياس في كل مفعلة، كالمجبنة والمبخلة وأشباههما، فإذا هو على التحقيق حسبة على معصية راهنة، لا على معصية منتظرة .




الخدمات العلمية