الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
وعموم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تقتضي الوجوب بكل حال ، ونحن إنما نستثني عنه بطريق التخصيص ما إذا علم أنه لا فائدة فيه إما بالإجماع أو بقياس ظاهر، وهو أن الأمر ليس يراد لعينه ، بل للمأمور ، فإذا علم اليأس عنه فلا فائدة فيه ، فأما إذا لم يكن يأس فينبغي أن لا يسقط الوجوب فإن قيل: فالمكروه الذي تتوقع إصابته إن لم يكن متيقنا ولا معلوما بغالب الظن، ولكن كان مشكوكا فيه أو كان غالب ظنه أنه لا يصاب بمكروه ، ولكن احتمل أن يصاب بمكروه، فهذا الاحتمال هل يسقط الوجوب حتى لا يجب إلا عند اليقين بأنه لا يصيبه مكروه، أم يجب في كل حال إلا إذا غلب على ظنه أنه يصاب بمكروه قلنا: إن غلب على الظن أنه يصاب لم يجب، وإن غلب أنه لا يصاب وجب، ومجرد التجويز لا يسقط الوجوب ، فإن ذلك ممكن في كل حسبة ، وإن شك فيه من غير رجحان ، فهذا محل النظر فيحتمل أن يقال : الأصل الوجوب بحكم العمومات وإنما يسقط بمكروه ، والمكروه هو الذي يظن أو يعلم حتى يكون متوقعا ، وهذا هو الأظهر ، ويحتمل أن يقال : إنه إنما يجب عليه إذا علم أنه لا ضرر فيه عليه ، أو ظن أنه لا ضرر عليه والأول أصح ؛ نظرا إلى قضية العمومات الموجبة للأمر بالمعروف ، فإن قيل : فالتوقع للمكروه يختلف بالجبن والجراءة ، فالجبان الضعيف القلب يرى البعيد قريبا حتى كأنه يشاهده ويرتاع منه والمتهور الشجاع يبعد وقوع المكروه به بحكم ما جبل عليه من حسن الأمل ، حتى إنه لا يصدق به إلا بعد وقوعه ، فعلى ماذا التعويل قلنا : التعويل على اعتدال الطبع وسلامة العقل والمزاج ؛ فإن الجبن مرض ، وهو ضعف في القلب ، سببه قصور في القوة وتفريط والتهور إفراط في القوة ، وخروج عن الاعتدال بالزيادة وكلاهما نقصان وإنما الكمال في الاعتدال الذي يعبر عنه بالشجاعة وكل واحد من الجبن والتهور يصدر تارة عن نقصان العقل، وتارة عن خلل في المزاج بتفريط أو إفراط فإن من اعتدل مزاجه في صفة الجبن والجراءة ، فقد لا يتفطن لمدارك الشر ، فيكون سبب جراءته جهله ، وقد لا يتفطن لمدارك دفع الشر ، فيكون سبب جبنه جهله ، وقد يكون عالما بحكم التجربة والممارسة بمداخل الشر ودوافعه ، ولكن يعمل الشر البعيد في تخذيله وتحليل قوته في الإقدام بسبب ضعف قلبه ما يفعله الشر القريب في حق الشجاع المعتدل الطبع ، فلا التفات إلى الطرفين وعلى الجبان أن يتكلف إزالة الجبن بإزالة علته ، وعلته جهل أو ضعف ، ويزول الجهل بالتجربة ، ويزول الضعف بممارسة الفعل المخوف منه تكلفا حتى يصير معتادا؛ إذ المبتدئ في المناظرة والوعظ مثلا قد يجبن عنه طبعه لضعفه ، فإذا مارس واعتاد فارقه الضعف فإن صار ذلك ضروريا غير قابل للزوال بحكم استيلاء الضعف على القلب ، فحكم ذلك الضعيف يتبع حاله ، فيعذر كما يعذر المريض في التقاعد عن بعض الواجبات ، ولذلك قد نقول على رأي : لا يجب ركوب البحر لأجل حجة الإسلام على من يغلب عليه الجبن في ركوب البحر ويجب على من لا يعظم خوفه منه فكذلك الأمر في وجوب الحسبة ، فإن قيل : فالمكروه المتوقع ما حده ؟ فإن الإنسان قد يكره كلمة وقد يكره ضربة ، وقد يكره طول لسان المحتسب عليه في حقه بالغيبة، وما من شخص يؤمر بالمعروف إلا يتوقع منه نوع من الأذى، وقد يكون منه أن يسعى به إلى سلطان ، أو يقدح فيه في مجلس يتضرر بقدحه فيه ، فما حد المكروه الذي يسقط الوجوب به ؟ قلنا : هذا أيضا فيه نظر غامض وصورته منتشرة ومجاريه كثيرة، ولكنا نجتهد في ضم نشره وحصر أقسامه ، فنقول : المكروه نقيض المطلوب، ومطالب الخلق في الدنيا ترجع إلى أربعة أمور: إما في النفس، فالعلم وأما في البدن فالصحة والسلامة وأما في المال فالثروة وأما في قلوب الناس فقيام الجاه ، فإذا المطلوب العلم والصحة والثروة والجاه ، ومعنى الجاه ملك قلوب الناس كما أن معنى الثروة ملك الدراهم لأن قلوب الناس وسيلة إلى الأعراض ، كما أن ملك الدراهم وسيلة إلى بلوغ الأغراض وسيأتي تحقيق معنى الجاه ، وسبب ميل الطبع إليه في ربع المهلكات وكل واحدة من هذه الأربعة يطلبها الإنسان لنفسه ولأقاربه ، والمختصين به ويكره في هذه الأربعة أمران ، أحدهما زوال ما هو حاصل موجود ، والآخر امتناع ما هو منتظر مفقود ، أعني اندفاع ما يتوقع وجوده فلا ضرر إلا في فوات حاصل وزواله، أو تعويق منتظر فإن المنتظر عبارة عن الممكن حصوله، والممكن حصوله كأنه حاصل، وفوات إمكانه كأنه فوات حصوله ، فرجع المكروه إلى قسمين ، أحدهما خوف امتناع المنتظر وهذا لا ينبغي أن يكون مرخصا في ترك الأمر بالمعروف أصلا ، ولنذكر مثاله في المطالب الأربعة ، أما العلم فمثاله تركه الحسبة على من يختص بأستاذه خوفا من أن يقبح حاله عنده فيمتنع من تعليمه وأما الصحة فتركه الإنكار على الطبيب الذي يدخل عليه مثلا وهو لابس حريرا خوفا من أن يتأخر عنه فتمتنع بسببه صحته المنتظرة وأما المال فتركه الحسبة على السلطان وأصحابه ، وعلى من يواسيه من ماله خيفة من أن يقطع إدراره في المستقبل، ويترك مواساته ، وأما الجاه فتركه الحسبة على من يتوقع منه نصرة وجاها في المستقبل ؛ خيفة من أن لا يحصل له الجاه ، أو خيفة من أن يقبح حاله عند السلطان الذي يتوقع منه ولاية ، وهذا كله لا يسقط وجوب الحسبة لأن هذه زيادات امتنعت، وتسمية امتناع حصول الزيادات ضررا مجاز ، وإنما الضرر الحقيقي فوات حاصل ولا يستثنى من هذا شيء إلا ما تدعو إليه الحاجة ، ويكون في فواته محذور يزيد على محذور السكوت على المنكر، كما إذا كان محتاجا إلى الطبيب لمرض ناجز والصحة منتظرة من معالجة الطبيب ويعلم أن في تأخره شدة الضنا به وطول المرض وقد يفضي إلى الموت وأعني بالعلم الظن الذي يجوز بمثله ترك استعمال الماء والعدول إلى التيمم فإذا انتهى إلى هذا الحد لم يبعد أن يرخص في ترك الحسبة ، وأما في العلم فمثل أن يكون جاهلا بمهمات دينه ولم يجد إلا معلما واحدا ولا قدرة له على الرحلة إلى غيره وعلم أن المحتسب عليه قادر على أن يسد عليه طريق الوصول إليه ؛ لكون العالم مطيعا له أو مستمعا لقوله ، فإذا الصبر على الجهل بمهمات الدين محذور، والسكوت على المنكر محذور ولا ، يبعد أن يرجح أحدهما ويختلف ذلك بتفاحش المنكر، وبشدة الحاجة إلى العلم ؛ لتعلقه بمهمات الدين وأما في المال فكمن يعجز عن الكسب والسؤال ، وليس هو قوي النفس في التوكل، ولا منفق عليه سوى شخص واحد ، ولو احتسب عليه قطع رزقه وافتقر في تحصيله إلى طلب إدرار حرام أو مات جوعا ، فهذا أيضا إذا اشتد الأمر فيه لم يبعد أن يرخص له في السكوت وأما الجاه فهو أن يؤذيه شرير ولا يجد سبيلا إلى دفع شره إلا بجاه يكتسبه من سلطان ، ولا يقدر على التوصل إليه إلا بواسطة شخص يلبس الحرير أو يشرب الخمر ، ولو احتسب عليه لم يكن واسطة ووسيلة له فيمتنع عليه حصول الجاه ، ويدوم بسببه أذى الشرير، فهذه الأمور كلها إذا ظهرت وقويت لم يبعد استثناؤها ولكن الأمر فيها منوط باجتهاد المحتسب حتى يستفتي فيها قلبه ويزن أحد المحذورين بالآخر، ويرجح بنظر الدين، لا بموجب الهوى والطبع فإن رجح بموجب الدين سمي سكوته مداراة وإن رجح بموجب الهوى سمى سكوته مداهنة .

وهذا أمر باطن، لا يطلع عليه إلا بنظر دقيق ولكن الناقد بصير فحق على كل متدين فيه أن يراقب قلبه ، ويعلم أن الله مطلع على باعثه وصارفه أنه الدين أو الهوى وستجد كل نفس ما عملت من سوء أو خير محضرا عند الله ، ولو في فلتة خاطر ، أو فلتة ناظر ، من غير ظلم وجور ، فما الله بظلام للعبيد .

التالي السابق


(وعمومات الأمر بالمعروف) والنهي عن المنكر في الآيات والأخبار (تقتضي الوجوب بكل حال، ونحن إنما نستثني عنه بطريق التخصيص، أما إذا علم أنه لا فائدة فيه إما بإجماع أو بقياس ظاهر، وهو أن الأمر) بالمعروف (ليس يراد لعينه، بل للمأمور، فإذا علم اليأس عنه فلا فائدة فيه، فأما إذا لم يكن يأس فينبغي ألا يسقط الوجوب) ؛ لاحتمال الجدوى، (فإن قيل: فالمكروه الذي تتوقع إصابته إن لم يكن متيقنا ولا معلوما بغالب الظن، ولكن كان مشكوكا فيه) أي: في إصابته (أو كان غالب ظنه أنه لا يصاب بمكروه، ولكن احتمل أنه يصاب بمكروه، فهذا الاحتمال هل يسقط الوجوب حتى لا يجب إلا عند اليقين بأنه لا يصيبه مكروه، أم يجب في كل حال إلا إذا غلب أنه لا يصاب، وجب) عملا بغلبة الظن في الموضعين، (ومجرد التجويز لا يسقط الوجوب، فإن ذلك ممكن في كل حسبة، وإن شك فيه من غير رجحان، فهذا محل النظر) للفقيه، (فيحتمل أن يقال: الأصل الوجوب بحكم العمومات) القرآنية والحديثية، (وإنما يسقط بمكروه، والمكروه هو الذي يظن أو يعلم حتى يكون متوقعا، وهذا هو الأظهر، ويحتمل أن يقال: إنه إنما يجب عليه إذا علم أنه لا ضرر فيه عليه، أو ظن أنه لا ضرر عليه) في الحال والمآل، (والأول أصح؛ نظرا إلى قضية العمومات الموجبة للأمر بالمعروف، فإن قيل: فالتوقع للمكروه يختلف بالجبن والجراءة، فالجبان الضعيف القلب يرى البعيد قريبا حتى كأنه يشاهده) بعينه حاضرا (ويرتاع منه) أي: يخاف، (والمتهور والشجاع يتبعد وقوع المكروه بحكم ما جبل عليه من حسن الأمل، حتى إنه لا يصدق به إلا بعد وقوعه، فعلى ماذا التعويل) والاعتماد؟ وهذا الذي ذكره في الشجاع صحيح، وأما الذي يرى البعيد قريبا فقد يكون ذلك عن جبن وخلع وضعف قلب فهو مسلم أيضا، ولكن قد يصدر ذلك عن كثرة التجارب ومتانة الرأي وصدقه؛ فلا يحكم لصاحبه أنه جبان، فليتأمل في ذلك، (قلنا: التعويل على اعتدال الطبع وسلامة العقل والمزاج؛ فإن الجبن مرض، وهو ضعف في القلب، سببه قصور في القوة) الغريزية (وتفريط) ، وفسره الراغب بأنه هيئة حاصلة للقوة الغضبية، بها يحجم عن مباشرة ما ينبغي، (والتهور إفراط في القوة، وخروج عن الاعتدال بالزيادة) ، وقال الراغب: هيئة حاصلة للقوة الغضبية، بها يقدم على أمور لا تنبغي، وكلاهما نقصان، (وإنما الكمال في الاعتدال الذي يعتبر عنه بالشجاعة) وهي هيئة حاصلة للقوة الغضبية بين التهور والجبن، بها يقدم [ ص: 29 ] على أمور ينبغي أن يقدم عليها، (وكل واحد من الجبن والتهور قد يصدر تارة عن نقصان العقل، وتارة عن خلل في المزاج بتفريط، وإفراط، فمن اعتدل مزاجه في صفة الجبن والجراءة، فقد لا يتفطن لمدارك الشر، فيكون سبب جراءته) وإقدامه (جهله، وقد لا يتفطن لمدارك دفع الشر، فيكون سبب جبنه جهله، وقد يكون عالما بحكم التجربة والممارسة بمداخل الشر ودوافعه، ولكن يعمل الشر البعيد في تخذيله) وتضعيفه (وتحليل قوته في الإقدام بسبب ضعف قلبه ما يفعله الشر القريب في حق الشجاع المعتدل الطبع، فلا التفات إلى الطرفين) فإنهما تفريط وإفراط، (وعلى الجبان أن يتكلف إزالة الجبن بإزالة علته، وعلته جهل أو ضعف، ويزول الجهل بالتجربة، ويزول الضعف بممارسته الفعل المخوف منه تكلفا حتى يصير) طبعا (معتادا؛ إذ المبتدئ في الوعظ والمناظرة مثلا قد يجبن عنه طبعه؛ لضعفه، فإذا مارس واعتاد فارقه الضعف) وهذا مشاهد في سائر الصنائع العملية، (فإن صار ذلك ضروريا غير قابل للزوال بحكم استيلاء الضعف على القلب، فحكم ذلك الضعيف يتبع حاله، فيعذر كما يعذر المريض في التقاعد عن الواجبات، ولذلك قد نقول على رأي: لا يجب ركوب البحر لأجل) أداء (حجة الإسلام على من يغلب عليه الجبن في ركوب البحر) بحيث يغشى عليه، وتغلب عليه الصفراء (ويجب على من لا يعظم خوفه منه) ، وهذا إذا لم يكن طريقه إلى مكة إلا من البحر، وإلا فالبر يقدم، (فكذلك الأمر في وجوب الحسبة، فإن قيل: فالمكروه المتوقع ما حده؟ فإن الإنسان قد يكره كلمة) يسمعها (وقد يكره ضربه، وقد يكره طول لسان المحتسب في حقه بالتعنيف بالغيبة، وما من شخص يؤمر بالمعروف إلا ويتوقع منه نوع من الأذى، وقد يكون منه أن يكره السعاية إلى السلطان، أو يقدح فيه في مجلس من يتضرر بقدحه، فما حد المكروه الذي يسقط الوجوب به؟ قلنا: هذا أيضا فيه نظر غامض) أي: دقيق، (وصوره منتشرة ومجاريه كثيرة، ولكنا نجتهد في ضم نشره وحصر أقسامه، فنقول: المكروه نقيض المطلوب، ومطالب الخلق في الدنيا ترجع إلى أربعة أمور: إما في النفس، فالعلم) ; لأن الإنسان لم يتميز عن البهائم إلا بالعقل، ولم يشرف إلا بالعلم، ومن شرف العلم أن كل حياة انفكت منه فهي غير معتد بها، بل ليست في حكم الموجودة؛ فإن الحياة الحيوانية لا تحصل ما لم يقارنها الإحساس، فيلتذ بما يوافقه ويطلبه ويتألم مما يخالفه، فيهرب منه، وذلك أحسن المعارف، وحاجة الإنسان إلى العلم أكثر من حاجته إلى المال؛ لأن العلم نافع لا محالة، ونفعه دائم في الدنيا والآخرة، (وأما في البدن فالصحة والسلامة) من الأمراض الطارئة والأسقام العارضة (وأما في المال فالثروة) أي: الكثرة، (وأما في قلوب الناس فقيام الجاه، فإذا المطلوب العلم والصحة والثروة والجاه، ومعنى الجاه ملك قلوب الناس) وتسخيرها (كما أن معنى الثروة ملك الدراهم) ، وجعلها في حوزته; (لأن قلوب الناس وسيلة إلى) بلوغ (الأغراض، كما أن ملك الدراهم وسيلة) إلى ذلك (وسيأتي تحقيق معنى الجاه، وسبب ميل الطبع إليه في ربع المهلكات) إن شاء الله تعالى، (وكل واحدة من هذه الأربعة يطلبها الإنسان لنفسه وأقاربه، والمختصين به) ، وملخص القول فيه أن النعم الموهوبة والمكتسبة مع كثرتها تنحصر في خمسة أنواع: الأول: السعادة الأخروية، وهي أعلاها وأشرفها، وهي أربعة أشياء، بقاء بلا فناء، وقدرة بلا عجز، وعلم بلا جهل، وغنى بلا فقر، ولا يمكن الوصول إلى ذلك إلا باكتساب الفضائل النفسية [ ص: 30 ] واستعمالها، وأصول ذلك أربعة أشياء: العقل وكماله العلم، والعفة وكمالها الورع، والشجاعة وكمالها المجاهدة، والعدالة وكمالها الإنصاف، ويكمل ذلك بالفضائل البدنية، وهي أربعة أشياء: الصحة والقوة والجمال وطول العمر، وبالفضائل المطيفة بالإنسان، وهي أربعة أشياء: المال والأهل والعز وكرم العشيرة، ولا سبيل إلى تحصيل ذلك إلا بتوفيق الله عز وجل، وذلك بأربعة أشياء: هدايته ورشده وتسديده وتأييده، فجميع ذلك خمسة أنواع، هي عشرون ضربا، ليس للإنسان مدخل في اكتسابها إلا فيما هو نفسي فقط، واعلم أن كل ما أعان على خير وسعادة فهو خير وسعادة، والأشياء التي هي معينة ونافعة في بلوغ السعادة الأخروية متفاوتة الأحوال، وعلى كل وجه، ومنها ما هو نافع في حال دون حال، وعلى وجه دون وجه، وربما يكون ضره أكثر من نفعه، فحق الإنسان أن يعرفها بحقائقها؛ حتى لا يقع الخطأ عليه في اختياره الوضيع على الرفيع، وتقديمه الخسيس على النفيس، (ويكره في هذه الأربعة أمران، أحدهما زوال ما هو حاصل موجود، والآخر امتناع ما هو منتظر مفقود، أعني اندفاع ما يتوقع وجوده) كما قال الشاعر:


كل يحاول حيلة يرجو بها دفع المضرة واجتلاب المنفعة


والمرء يغلط في تصرف حاله فلربما اختار العناء على الدعه



(ولا ضرر إلا في فوات حاصل وزواله، أو تعويق منتظر عبارة عن الممكن حصوله، والممكن حصوله كأنه حاصل، وفوات إمكانه كأنه فوات حصوله، فرجع المكروه إلى قسمين، أحدهما خوف امتناع المنتظر) حصوله، (وهذا لا ينبغي أن يكون مرخصا في ترك الأمر بالمعروف أصلا، ولنذكر مثاله في المطالب الأربعة، أما العلم فمثاله تركه الحسبة على من يختص بأستاذه) ممن ينتمي إليه تحصيلا للعلم منه، أو خدمة أو محبة (خوفا من أن يقبح حاله عنده فيمتنع من تعلمه) أو خدمته، (وأما الصحة فتركه الإنكار على الطبيب الذي يدخل عليه مثلا وهو لابس حرير) أو راكب على مركب فضة أو ذهب (خوفا من أن يتأخر عنه فيمتنع بسببه صحته المنتظرة) بسبب معالجته، (وأما المال فتركه الحسبة على السلطان وأصحابه، وعلى من يواسيه من مال؛ خيفة من أن يقطع إدراره في المستقبل، ويترك مواساته، وأما الجاه فتركه الحسبة على من يتوقع منه نصرة وجاها) في قضاء حاجاته (في المستقبل؛ خيفة من ألا يحصل له الجاه، أو خيفة من أن يقبح حاله عند السلطان الذي يتوقع منه ولاية، وهذا كله لا يسقط وجوب الحسبة؛ فإن هذه زيادات امتنعت، وتسمية امتناع حصول الزيادات ضررا مجاز، وإنما الضرر الحقيقي فوات حاصل) أصلي، (ولا يستثنى عن هذا شيء إلا ما تتحقق إليه الحاجة، ويكون في فواتها محذور يزيد على محذور السكوت) ، لو سكت (على المنكر، كما إذا كان محتاجا إلى الطبيب لمرض ناجز) قد حل به في الحال، (والصحة منتظرة من معالجة الطبيب) إن عالجه (ويعلم أن في تأخره شدة الضنى به وطول المرض) وامتداد زمنه، (وقد يفضي إلى الموت) إن ترك المعالجة (وأعني بالعلم الظن الذي يجوز بمثله ترك استعمال الماء) في الوضوء والغسل، (والعدول إلى التيمم) كما سبقت الإشارة إليه في كتاب سر الطهارة، وفي كتاب آداب السفر، (فإذا انتهى إلى هذا الحد لم يبعد أن يرخص في ترك الحسبة، وأما في العلم فمثل أن يكون جاهلا بمهمات دينه ولم يجد إلا معلما واحدا) في البلد الذي هو فيه (ولا قدرة له على الرحلة إلى غيره) إما لعجز حسي أو معنوي، (وعلم أن المحتسب عليه قادر على أن يسد عليه طريق الوصول إليه؛ لكون العالم مطيعا له أو مستمعا لقوله، فإذا الصبر على الجهل بمهمات [ ص: 31 ] الدين محذور، والسكوت على المنكر محذور، فلا يبعد أن يرجح أحدهما) على الآخر، (ويختلف ذلك بتفاحش المنكر، وبشدة الحاجة إلى العلم؛ لتعلقه بمهمات الدين) ، فإن نظر إلى التفاحش رجح جانب الإنكار، وإن نظر إلى الجهل بالدين ولا سبيل لإزالته رجح جانبه على الإنكار، (وأما في المال فكمن يعجز عن الكسب والسؤال، وليس هو قوي النفس في التوكل، ولا منفق عليه سوى شخص واحد، ولو احتسب عليه قطع رزقه) وإدراره عنه، (وافتقر في تحصيله إلى طلب إدرار حرام) من مواضع الشبهة، (أو مات جوعا، فهذا أيضا إذا اشتد الأمر فيه لم يبعد أن يرخص في السكوت) عن الحسبة، (وأما الجاه فهو أن يؤذيه شرير) الرجل الكثير الشر، (ولا يجد سبيلا إلى دفع شره) وأذاه عنه (إلا بجاه يكتسبه من سلطان، ولا يقدر على التوصل إليه إلا بواسطة شخص يلبس الحرير أو يشرب الخمر، ولو احتسب عليه) ، وأنكر فعله (لم يكن واسطة ووسيلة له) عند السلطان، (فيمتنع عليه حصول الجاه، ويدوم عليه أذى الشرير، فهذه أمور كلها إذا ظهرت وقويت لم يبعد استثناؤها) عن الضرر الحقيقي، (ولكن الأمر فيها منوط باجتهاد المحتسب حتى يستفتي فيها قلبه) عند الاشتباه، (ويزن أحد المحذورين بالآخر، ويرجح بنظر الدين، لا بمجرد الهوى والطبع) النفسيين، (فإن رجح بموجب الدين سمي سكوته مداراة) ، وهي الملاينة والملاطفة (وإن رجح بموجب الهوى سمي سكوته مداهنة) ولذا كانت المداراة محمودة، ومنه قول الشاعر:


كان لا يدري مداراة الورى ومداراة الورى أمر مهم

والمداهنة مذمومة؛ لما فيها من قلة المبالاة بالدين، وترجيح لجانب الهوى، (وهو أمر باطن، لا يطلع عليه إلا بنظر دقيق) ، وتأمل بتحقيق (ولكن الناقد بصير) مطلع، (فحق كل متدين فيه أن يراقب قلبه، ويعلم أن الله تعالى مطلع على باعثه وصارفه أنه الدين أو الهوى) أي: أيهما، (وستجد كل نفس ما عملت من سوء أو خير محضرا عند الله، ولو في فلتة خاطر، أو لفتة ناظر، من غير ظلم ولا جور، فما الله بظلام للعبيد) جل جلاله، وعم نواله .




الخدمات العلمية