الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
وعن أبي عمران الجوني قال لما ولي هارون الرشيد الخلافة زاره العلماء فهنوه بما صار إليه من أمر الخلافة ففتح ، بيوت الأموال وأقبل يجيزهم بالجوائز السنية وكان قبل ذلك يجالس العلماء والزهاد وكان يظهر النسك والتقشف وكان مؤاخيا لسفيان بن سعيد بن المنذر الثوري قديما فهجره سفيان ولم يزره فاشتاق هارون إلى زيارته ليخلو به ويحدثه فلم يزره ولم يعبأ بموضعه ولا بما صار إليه ، فاشتد ذلك على هارون ، فكتب إليه كتابا، يقول فيه: بسم الله الرحمن الرحيم من عبد الله هارون الرشيد أمير المؤمنين إلى أخيه سفيان بن سعيد بن المنذر ، أما بعد ، يا أخي قد علمت أن الله تبارك وتعالى واخى بين المؤمنين وجعل ذلك فيه وله واعلم أني قد واخيتك مواخاة لم أصرم بها حبلك ، ولم أقطع منها ودك وإني منطو لك على أفضل المحبة والإرادة ولولا هذه القلادة التي قلدنيها الله لأتيتك ولو حبوا لما أجد لك في قلبي من المحبة واعلم يا أبا عبد الله أنه ما بقي من إخواني وإخوانك أحد إلا وقد زارني وهناني بما صرت إليه وقد فتحت بيوت الأموال وأعطيتهم من الجوائز السنية ما فرحت به نفسي وقرت به عيني وإني استبطأتك فلم تأتني وقد كتبت لك كتابا شوقا مني إليك شديدا ، وقد علمت يا أبا عبد الله ما جاء في فضل المؤمن وزيارته ومواصلته ، فإذا ورد عليك كتابي فالعجل العجل .

فلما كتب الكتاب التفت إلى من عنده فإذا كلهم يعرفون سفيان الثوري وخشونته، فقال: علي برجل من الباب فأدخل عليه رجل يقال له عباد الطالقاني .

فقال : يا عباد خذ كتابي هذا فانطلق به إلى الكوفة فإذا دخلتها فسل عن قبيلة بني ثور ، ثم سل عن سفيان الثوري ، فإذا رأيته فألق كتابي هذا إليه وع بسمعك وقلبك جميع ما يقول فأحص عليه دقيق أمره وجليله لتخبرني به .

فأخذ عباد الكتاب وانطلق به حتى ورد الكوفة ، فسأل عن القبيلة فأرشد إليها ثم سأل عن سفيان ، فقيل له هو في المسجد .

قال عباد : فأقبلت إلى المسجد فلما رآني قام قائما ، وقال : أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم ، وأعوذ بك اللهم من طارق يطرق إلا بخير .

قال عباد : فوقعت الكلمة في قلبي فخرجت فلما رآني نزلت بباب المسجد قام يصلي ولم يكن وقت صلاة : فربطت فرسي بباب المسجد ودخلت فإذا جلساؤه قعود قد نكسوا رؤوسهم كأنهم لصوص قد ورد عليهم السلطان ، فهم خائفون من عقوبته فسلمت فما رفع أحد إلي رأسه وردوا السلام علي برؤوس الأصابع فبقيت واقفا فما منهم أحد يعرض علي الجلوس وقد علاني من هيبتهم الرعدة ومددت عيني إليهم فقلت : إن المصلي هو سفيان فرميت بالكتاب إليه .

فلما رأى الكتاب ارتعد وتباعد منه كأنه حية عرضت له في محرابه ، فركع وسجد وسلم وأدخل يده في كمه ولفها بعباءته وأخذه فقلبه بيده ثم رماه إلى من كان خلفه وقال : يأخذه بعضكم يقرؤه فإني أستغفر الله أن أمس شيئا مسه ظالم بيده .

قال عباد : فأخذه بعضهم فحله كأنه خائف من فم حية تنهشه ثم فضه وقرأه وأقبل سفيان يتبسم تبسم المتعجب فلما فرغ من قراءته قال : اقلبوه واكتبوا إلى الظالم في ظهر كتابه، فقيل له : يا أبا عبد الله إنه خليفة فلو كتبت إليه في قرطاس نقي .

فقال : اكتبوا إلى الظالم في ظهر كتابه ، فإن كان اكتسبه من حلال فسوف يجزى به ، وإن كان اكتسبه من حرام فسوف يصلى به ولا يبقى شيء مسه ظالم عندنا، فيفسد علينا ديننا .

فقيل له ما نكتب ، فقال : اكتبوا بسم الله الرحمن الرحيم من العبد المذنب سفيان بن سعيد بن المنذر الثوري إلى العبد المغرور بالآمال هارون الرشيد الذي سلب حلاوة الإيمان .

أما بعد ، فإني قد كتبت إليك أعرفك أني قد صرمت حبلك وقطعت ودك وقليت موضعك فإنك قد جعلتني شاهدا عليك بإقرارك على نفسك في كتابك بما هجمت به على بيت مال المسلمين فأنفقته في غير حقه وأنفذته في غير حكمه، ثم لم ترض بما فعلته وأنت ناء عني حتى كتبت إلي تشهدني على نفسك .

أما إني قد شهدت عليك أنا وإخواني الذين شهدوا قراءة كتابك وسنؤدي الشهادة عليك غدا بين يدي الله تعالى ، يا هارون هجمت على بيت مال المسلمين بغير رضاهم هل رضي بفعلك المؤلفة قلوبهم والعاملون عليها في أرض الله تعالى، والمجاهدون في سبيل الله، وابن السبيل أم رضي بذلك حملة القرآن وأهل العلم والأرامل والأيتام أم هل رضي بذلك خلق من رعيتك ، فشد يا هارون مئزرك وأعد للمسألة جوابا وللبلاء جلبابا واعلم أنك ستقف بين يدي الحكم العدل فقد رزئت في نفسك إذ سلبت حلاوة العلم والزهد ولذيذ القرآن ومجالسة الأخيار ، ورضيت لنفسك أن تكون ظالما وللظالمين إماما ، يا هارون قعدت على السرير ولبست الحرير وأسبلت سترا دون بابك وتشبهت بالحجبة برب العالمين ثم أقعدت أجنادك الظلمة دون بابك وسترك ، يظلمون الناس ولا ينصفون ، يشربون الخمور ويضربون من يشربها ، ويزنون ويحدون الزاني ، ويسرقون ويقطعون السارق ، أفلا كانت هذه الأحكام عليك وعليهم قبل أن تحكم بها على الناس ، فكيف بك يا هارون غدا إذا نادى المنادي من قبل الله تعالى احشروا الذين ظلموا وأزواجهم أي الظلمة وأعوان الظلمة فقدمت بين يدي الله تعالى ، ويداك مغلولتان إلى عنقك لا يفكهما إلا عدلك وإنصافك والظالمون حولك وأنت لهم سابق وإمام إلى النار كأني بك يا هارون وقد أخذت بضيق الخناق ووردت المساق وأنت ترى حسناتك في ميزان غيرك وسيئات غيرك في ميزانك زيادة عن سيئاتك بلاء على بلاء وظلمة فوق ظلمة ، فاحتفظ بوصيتي واتعظ بموعظتي التي وعظتك بها ، واعلم أني قد نصحتك وما أبقيت لك في النصح غاية فاتق الله يا هارون في رعيتك ، واحفظ محمدا صلى الله عليه وسلم في أمته ، وأحسن الخلافة عليهم ، واعلم أن هذا الأمر لو بقي لغيرك لم يصل إليك وهو صائر إلى غيرك وكذا الدنيا تنتقل بأهلها واحدا بعد واحد فمنهم من تزود زادا نفعه ومنهم من خسر دنياه وآخرته ، وإني أحسبك يا هارون ممن خسر دنياه وآخرته ، فإياك إياك أن تكتب لي كتابا بعد هذا فلا أجيبك عنه، والسلام .

قال عباد فألقى : إلي الكتاب منشورا غير مطوي ولا مختوم فأخذته وأقبلت إلى سوق الكوفة ، وقد وقعت الموعظة من قلبي ، فناديت : يا أهل الكوفة فأجابوني فقلت لهم : يا قوم من يشتري رجلا هرب من الله إلى الله فأقبلوا إلي بالدنانير والدراهم فقلت : لا حاجة لي في المال ولكن جبة صوف خشنة وعباءة قطوانية قال : فأتيت بذلك ونزعت ما كان علي من اللباس الذي كنت ألبسه مع أمير المؤمنين وأقبلت أقود البرذون وعليه السلاح الذي كنت أحمله حتى أتيت باب أمير المؤمنين هارون حافيا راجلا ، فهزأ بي من كان على باب الخليفة ثم استؤذن ، لي فلما دخلت عليه وبصر بي على تلك الحالة قام وقعد ثم قام قائما ، وجعل يلطم رأسه ووجهه ويدعو بالويل والحزن ، ويقول : انتفع الرسول وخاب المرسل ما لي وللدنيا ولملك يزول عني سريعا، ثم ألقيت الكتاب إليه منشورا كما دفع إلي .

فأقبل هارون يقرؤه ودموعه تنحدر من عينيه ويقرأ ويشهق ، فقال بعض جلسائه : يا أمير المؤمنين لقد اجترأ عليك سفيان فلو وجهت إليه فأثقلته بالحديد وضيقت عليه السجن وكنت تجعله عبرة لغيره .

فقال هارون : اتركونا يا عبيد الدنيا المغرور من غررتموه والشقي من أهلكتموه وإن سفيان أمة وحده فاتركوا سفيان وشأنه .

ثم لم يزل كتاب سفيان إلى جنب هارون يقرؤه عند كل صلاة حتى توفي رحمه الله .

فرحم الله عبدا نظر لنفسه واتقى الله فيما يقدم عليه غدا من عمله ، فإنه عليه يحاسب وبه يجازى والله ولي التوفيق .

التالي السابق


(وعن أبي عمران الجوني) ، ويقال له الجويني الحافظ متأخر سكن بغداد، وهو ثقة، وليس هو أبا عمران عبد الملك بن حبيب الجويني فإنه قديم الوفاة قبل زمان سفيان وهارون، مات سنة ثمان وعشرين ومائة، فليتنبه لذلك (قال لما ولي هارون الرشيد الخلافة) ، وذلك في سنة سبعين ومائة وتوفي سفيان سنة إحدى وستين ومائة ففي سياق هذه الحكاية نظر ولعلها وقعت لأبيه المهدي، فإنه تولى الخلافة سنة ثمان وخمسين والثوري حي، فلينظر لذلك (زاره العلماء فهنئوه بما صار إليه وفيه، وفتح بيوت الأموال وأقبل يجيزهم بالجوائز السنية) أي العطايا الواسعة (وكان قبل ذلك) أي قبل أن يلي الخلافة (يجالس العلماء والزهاد وكان يظهر النسك والتعفف وكان مؤاخيا لسفيان بن سعيد بن المنذر الثوري قديما) اعلم أن ولادة هارون في سنة تسع وأربعين ومائة فكان عمره إذ مات سفيان ثلاث عشرة سنة إلا أشهرا، وقوله: قديما يدل على أن هذه المؤاخاة كانت قبل الخلافة مدة فلا نقول إلا أنه قبل الخلافة بخمس سنين، فكيف يؤاخي سفيان وهو ابن ثمان سنين وهو محجور عليه في دار الخلافة، وسفيان ليس له اختلاف إلى دار الخلافة بل مشرد من بلد إلى بلد خوفا من أبيه المهدي، وجده المنصور، فمن تأمل هذه التواريخ وجد الحكاية مفتعلة إلا أن يكون ذلك للمهدي أو للمنصور فيسلم، (فهجره سفيان ولم يزره فاشتاق إليه هارون ليخلو به ويحدثه) على عادته [ ص: 83 ] (فلم يزره ولم يعبأ بموضعه ولا بما صار إليه، فاشتد ذلك على هارون، فكتب إليه كتابا، يقول فيه: بسم الله الرحمن الرحيم من عبد الله هارون الرشيد أمير المؤمنين إلى أخيه) في الله ورسوله (سفيان بن سعيد بن المنذر، أما بعد، يا أخي فقد علمت أن الله تعالى واخى بين المؤمنين وجعل ذلك فيه وله واعلم أني واخيتك مواخاة لم أصرم منها حبلك، ولم أقطع عنها ودك) وصرم الحبل كناية عن قطع الود، ثم بينه بقوله (وإني منطو لك على أفضل المحبة والإرادة ولولا هذه القلادة التي قلدنيها الله) يعني الخلافة (لأتيتك ولو حبوا) على الركب، (لما أجد لك في قلبي من المحبة واعلم يا أبا عبد الله أنه ما بقي من إخواني وإخوانك أحد إلا وقد زارني وهنأني بما صرت إليه) من أمر الخلافة، أما في إخوانه فمسلم، وأما في إخوان سفيان ففيه مجازفة؛ لأنهم من أهل الآخرة ليس لهم هم في تهنئة أمير، ولا دخول في مثل هذه الأحوال، فما زاره إلا من كان مثله في الحرص على الدنيا والتكالب، (وقد فتحت بيوت الأموال وأعطيتهم من الجوائز السنية) نعم فتح وأعطى، ولكن لأرباب الملاهي والقيان واشتغل بحظ النفس ولذة الهوى (ما فرحت به نفسي وقرت به عيني) ، وكان قرة عينه في الشراب والسماع، (وإني استبطأتك) أي انتظرت بطأك عني، (فلم تأتني وقد كتبت كتابا شوقا مني إليك شديدا، وقد علمت يا أبا عبد الله ما جاء في فضل المؤمن وزيارته ومواصلته، فإذا ورد عليك كتابي فالعجل العجل) أي أسرع إلينا، والتكرار للتأكيد، (فلما كتب الكتاب التفت إلى من عنده) من الأصحاب والخدم، (فإذا كلهم يعرفون سفيان وخشونته، فقال: علي برجل من الباب) أي من خدمة الباب، (فأدخل عليه رجل يقال له عباد الطالقاني، فقال: يا عباد خذ كتابي هذا فانطلق به إلى الكوفة فإذا دخلتها فسل عن قبيلة بني ثور، ثم اسأل عن سفيان الثوري، فإذا رأيته فألق كتابي هذا إليه وع بسمعك وقلبك جميع ما يقول) أي احفظ، (فأحص عليه دقيق أمره وجليله لتخبرني به، فأخذ عباد الكتاب وانطلق به حتى ورد الكوفة، فسأل عن القبيلة فأرشد إليها ثم سأل عن سفيان، فقيل له هو في المسجد قال عباد: فأقبلت إلى المسجد فلما رآني قام قائما، وقال: أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم، وأعوذ بك اللهم من طارق يطرق إلا بخير، قال عباد: فوقعت الكلمة من قلبي) موقعا عظيما، (فخرجت فلما رآني نزلت بباب المسجد قام يصلي ولم يكن وقت الصلاة قال: فربطت فرسي بباب المسجد ودخلت فإذا جلساؤه قعود قد نكسوا رؤوسهم كأنهم لصوص) من شدة الخوف والخجل كأنهم (قد ورد عليهم السلطان، فهم خائفون من عقوبته فسلمت فما رفع أحد إلي رأسه وردوا السلام علي برؤوسهم) وفي نسخة برؤوس الأصابع، الإشارة بالسلام بالرأس أو باليد بدعة حدثت بعد العصر الأول، وكيف يجوز لأصحاب سفيان أن يتركوا رد السلام باللسان هذا بعيد عن مثلهم، (فبقيت واقفا فما منهم أحد يعرض علي الجلوس وقد علاني من هيبتهم الرعدة وقد مددت عيني إليهم فقلت: إن المصلي هو سفيان) أي عرفته بالفراسة، (فرميت بالكتاب إليه فلما رأى الكتاب ارتعد وتباعد عنه كأنه حية عرضت له في محرابه، فركع وسجد وسلم وأدخل يده في كمه ولفها بعباءته وأخذه فقلبه بيده) وفي نسخة يقلبه بيده (ثم دحاه) أي رماه (إلى من كان خلفه) من أصحابه (وقال: يأخذه بعضكم يقرؤه فإني أستغفر الله أن أمس [ ص: 84 ] شيئا مسه ظالم بيده، قال عباد: فأخذه بعضهم فحله كأنه خائف من فم حية تنهشه ثم فضه) أي كسر خاتمه، (وقرأه وأقبل سفيان يتبسم تبسم المتعجب فلما فرغ من قراءته قال: اقلبوه واكتبوا للظالم في ظهر كتابه، فقيل له: يا أبا عبد الله إنه خليفة) في الأرض (فلو كتبت إليه في قرطاس نقي) أي خالص عن الكتابة، (فقال: اكتبوا إلى الظالم في ظهر كتابه، فإن كان اكتسبه من حلال فسوف يجزى به، وإن كان اكتسبه من حرام فسوف يصلى به) أي نارا، (ولا يبقى شيء مسه الظالم عندنا، فيفسد علينا ديننا فقيل له ما نكتب، فقال: اكتبوا بسم الله الرحمن الرحيم من العبد المذنب سفيان بن سعيد بن المنذر الثوري إلى العبد المغرور بالآمال هارون الذي سلب حلاوة الإيمان أما بعد، فإني كتبت إليك أعرفك أني قد صرمت حبلك وقطعت ودك وقليت موضعك) أي أبغضته، والمراد بالموضع توليته للخلافة، (وإنك قد جعلتني شاهدا عليك بإقرارك على نفسك في كتابك بما هجمت عليه من مال بيت المسلمين فأنفقته في غير حقه وأنفدته) أي أهلكته (في غير حكمه، ثم لم ترض بما فعلت وأنت ناء) أي بعيد (حتى كتبت إلي تشهدني على نفسك أما إني قد شهدت عليك أنا وإخواني الذين شهدوا قراءة كتابك وسنؤدي الشهادة عليك غدا بين يدي الله تعالى، يا هارون هجمت على بيت مال المسلمين بغير رضاهم هل رضي بفعلك المؤلفة قلوبهم والعاملون عليها في أرض الله تعالى والمجاهدون في سبيل الله وابن السبيل أم رضي بذلك حملة القرآن وأهل العلم والأرامل والأيتام) وهؤلاء المذكورون هم أهل الحقوق في بيوت أموال المسلمين، (هل رضي بذلك خلق من رعيتك، فشد يا هارون مئزرك وأعد للمسألة جوابا وللبلاء جلبابا واعلم أنك ستقف بين يدي الحكم العدل) وتسأل، (فقد رزئت في نفسك) أي أصبت (إذ سلبت حلاوة العلم والزهد ولذيذ القرآن ومجالسة الأخيار، ورضيت لنفسك أن تكون ظالما وللظالمين إماما، يا هارون قعدت على السرير ولبست الوثير) أي اللين، (وأسبلت سترا دون بابك وتشبهت بالحجبة برب العالمين ثم أقعدت أجنادك الظلمة دون حجابك وسترك، يظلمون الناس ولا ينصفون، يشربون الخمور ويضربون من يشربها، ويزنون ويحدون الزاني، ويسرقون ويقطعون السارق، أفلا كانت هذه الأحكام عليك وعليهم قبل أن تحكم بها على الناس، فكيف بك يا هارون غدا إذا نادى المنادي من قبل الله تعالى احشروا الذين ظلموا وأزواجهم أين الظلمة وأعوان الظلمة فقدمت بين يدي الله تعالى، ويداك مغلولتان إلى عنقك لا يفكهما إلا عدلك وإنصافك والظالمون حولك وأنت لهم سائق وإمام إلى النار وقد أخذت بضيق الخناق ووردت المشاق) أي المتاعب، (وأنت ترى حسناتك في ميزان غيرك وسيئات غيرك في ميزانك زيادة على سيئاتك بلاء على بلاء وظلمة فوق ظلمة، فاحتفظ بوصيتي واتعظ بموعظتي التي وعظتك بها، واعلم أني قد نصحتك وما أبقيت لك في النصح غاية فاتق الله يا هارون في رعيتك، واحفظ محمدا صلى الله عليه [ ص: 85 ] وسلم في أمته، وأحسن الخلافة عليهم، واعلم أن هذا الأمر لو بقي لغيرك لم يصل إليك وهو صائر إلى غيرك وكذا الدنيا تنتقل بأهلها واحدا بعد واحد فمنهم من تزود زادا نفعه) في عاقبته، (ومنهم من خسر دنياه وآخرته، وإني أحسبك يا هارون ممن خسر دنياه وآخرته، فإياك وإياك أن تكتب إلي كتابا بعد هذا) تطلب فيه اللقاء والنصح، (فلا أجيبك عنه والسلام. قال عباد: فألقى إلي الكتاب منشورا غير مطوي ولا مختوم فأخذته وأقبلت إلى سوق الكوفة، وقد وقعت الموعظة من قلبي، فناديت: يا أهل الكوفة فأجابوني فقلت لهم: يا قوم من يشتري رجلا هرب من الله إلى الله فأقبلوا إلي بالدنانير والدراهم فقلت: لا حاجة لي في المال ولكن جبة صوف خشنة وعباءة قطوانية) مما تعمل بالبصرة (قال: فأتيت بذلك ونزعت ما كان علي من اللباس الذي كنت ألبسه مع أمير المؤمنين وأقبلت أقود البرذون) وهو الحصان الرومي، (وعليه السلاح الذي كنت أحمله حتى أتيت باب أمير المؤمنين هارون حافيا راجلا، فهزأ بي من كان على باب الخليفة، فاستؤذن لي فلما دخلت عليه وبصر بي على تلك الحالة قام وقعد ثم قام قائما، وجعل يلطم رأسه ووجهه ويدعو بالويل والحرب، ويقول: انتفع الرسول وخاب المرسل ما لي وللدنيا) ما لي (والملك يزول عني سريعا، ثم ألقيت الكتاب إليه منشورا كما دفع إلي فأقبل هارون يقرؤه ودموعه تنحدر من عينيه ويقرأ ويشهق، فقال بعض جلساؤه: يا أمير المؤمنين لقد اجترأ عليك سفيان فلو وجهت إليه فأثقلته بالحديد وضيقت عليه السجن كنت تجعله عبرة لغيره، فقال هارون: اتركونا يا عبيد الدنيا المغرور من غررتموه والشقي من أهلكتموه وإن سفيان أمة وحده) أي لا يشبهه أحد في وصفه، (فاتركوا سفيان وشأنه، ثم لم يزل كتاب سفيان إلى جنب هارون يقرؤه عند كل صلاة حتى توفي رحمه الله تعالى) سنة ثلاث وتسعين ومائة، (فرحم الله عبدا نظر لنفسه واتقى الله فيما يقدم عليه غدا من عمله، فإنه عليه يحاسب وبه يجازى والله ولي التوفيق) .




الخدمات العلمية