الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
فإذا وجد مثل هذا المعتصم وجب على معتصمه أن يحميه ويعصمه بحصن حصين ، يدفع عنه قواطع الطريق وهو ، أربعة أمور : الخلوة والصمت والجوع والسهر ، وهذا تحصن من القواطع ، فإن مقصود المريد إصلاح قلبه ليشاهد به ربه ويصلح لقربه .

أما الجوع فإنه ينقص دم القلب ويبيضه وفي بياضه نوره ويذيب شحم الفؤاد وفي ذوبانه رقته ورقته مفتاح المكاشفة كما أن قساوته سبب الحجاب ومهما نقص دم القلب ضاق مسلك العدو فإن مجاريه العروق الممتلئة بالشهوات وقال عيسى عليه السلام : يا معشر الحواريين جوعوا بطونكم لعل قلوبكم ترى ربكم وقال سهل بن عبد الله التستري ما صار الأبدال أبدالا إلا بأربع خصال بإخماص : البطون ، والسهر ، والصمت ، والاعتزال عن الناس ففائدة الجوع في تنوير القلب أمر ظاهر يشهد له التجربة ، وسيأتي بيان وجه التدريج فيه في كتاب كسر الشهوتين .

وأما السهر فإنه يجلو القلب ويصفيه وينوره فيضاف ذلك إلى الصفاء الذي حصل من الجوع فيصير القلب كالكوكب الدري والمرآة المجلوة فيلوح فيه جمال الحق ويشاهد فيه رفيع الدرجات في الآخرة وحقارة الدنيا وآفاتها ، فتتم بذلك رغبته عن الدنيا وإقباله على الآخرة والسهر أيضا نتيجة الجوع فإن السهر مع الشبع غير ممكن والنوم يقسي القلب ويميته إلا إذا كان بقدر الضرورة فيكون سبب المكاشفة لأسرار الغيب ، فقد قيل في صفة الأبدال : إن أكلهم فاقة ونومهم غلبة وكلامهم ضرورة وقال إبراهيم الخواص رحمه الله أجمع رأى سبعين صديقا على أن كثرة النوم من كثرة شرب الماء .

وأما الصمت فإنه تسهله العزلة ولكن المعتزل لا يخلو عن مشاهدة من يقوم له بطعامه وشرابه وتدبير أمره فينبغي أن لا يتكلم إلا بقدر الضرورة فإن الكلام يشغل القلب وشره القلوب إلى الكلام عظيم فإنه يستروح إليه ويستثقل التجرد للذكر والفكر فيستريح إليه فالصمت يلقح العقل ويجلب الورع ويعلم التقوى .

وأما حياة الخلوة ففائدتها دفع الشواغل وضبط السمع والبصر فإنهما دهليز القلب والقلب في حكم حوض تنصب إليه مياه كريهة كدرة قذرة من أنهار الحواس ومقصود الرياضة تفريغ الحوض من تلك المياه ومن الطين الحاصل منها ليتفجر أصل الحوض فيخرج منه الماء النظيف الطاهر وكيف يصح له أن ينزح الماء من الحوض والأنهار مفتوحة إليه فيتجدد في كل حال أكثر مما ينقص ، فلا بد من ضبط الحواس إلا عن قدر الضرورة ، وليس يتم ذلك إلا بالخلوة في بيت مظلم وإن لم يكن له مكان مظلم فليلف رأسه في جيبه أو يتدثر بكساء أو إزار ففي مثل هذه الحالة يسمع نداء الحق ، ويشاهد جلال الحضرة الربوبية .

أما ترى أن نداء رسول الله صلى الله عليه وسلم بلغه وهو على مثل هذه الصفة فقيل ، له : يا أيها المزمل ، يا أيها المدثر .

فهذه الأربعة جنة وحصن بها تدفع عنه القواطع وتمنع العوارض القاطعة للطريق فإذا فعل ذلك اشتغل بعده بسلوك الطريق ، وإنما سلوكه بقطع العقبات ولا عقبة على طريق الله تعالى إلا صفات القلب التي سببها الالتفات إلى الدنيا وبعض تلك العقبات أعظم من بعض ، والترتيب في قطعها أن يشتغل بالأسهل فالأسهل ، وهي تلك الصفات ، أعني أسرار العلائق التي قطعها في أول الإرادة وآثارها أعني المال والجاه وحب الدنيا والالتفات إلى الخلق والتشوف إلى المعاصي ، فلا بد أن يخلي الباطن عن آثارها كما أخلى الظاهر عن أسبابها الظاهرة ، وفيه تطول المجاهدة ويختلف ذلك باختلاف الأحوال فرب شخص قد كفى أكثر الصفات فلا تطول عليه المجاهدة وقد ذكرنا أن طريق المجاهدة مضادة الشهوات ومخالفة الهوى في كل صفة غالبة على نفس المريد ، كما سبق ذكره ، فإذا كفى ذلك أو ضعف بالمجاهدة ولم يبق في قلبه علاقة شغله بعد ذلك بذكر يلزم قلبه على الدوام ويمنعه من تكثير الأوراد الظاهرة بل يقتصر على الفرائض والرواتب ويكون ورده وردا واحدا وهو لباب الأوراد وثمرتها أعني ملازمة القلب لذكر الله تعالى بعد الخلو من ذكر غيره ، ولا يشغله به ما دام قلبه ملتفتا إلى علائقه قال الشبلي للحصري إن كان يخطر بقلبك من الجمعة التي تأتيني فيها إلى الجمعة الأخرى شيء غير الله تعالى فحرام عليك أن تأتيني وهذا التجرد لا يحصل إلا مع صدق الإرادة واستيلاء حب الله تعالى على القلب ، حتى يكون في صورة العاشق المستهتر الذي ليس له إلا هم واحد فإذا كان كذلك ألزمه الشيخ زاوية ينفرد بها ويوكل به من يقوم له بقدر يسير من القوت الحلال ، فإن أصل طريق الدين القوت الحلال وعند ذلك يلقنه ذكرا من الأذكار حتى يشغل به لسانه وقلبه فيجلس ويقول مثلا : الله الله ، أو سبحان الله سبحان الله ، أو ما يراه الشيخ من الكلمات فلا يزال يواظب عليه حتى تسقط حركة اللسان وتكون الكلمة كأنها جارية على اللسان من غير تحريك، ثم لا يزال يواظب عليه حتى يسقط الأثر عن اللسان وتبقى صورة اللفظ في القلب ، ثم لا يزال كذلك حتى يمحى عن القلب حروف اللفظ وصورته ، وتبقى حقيقة معناه لازمة للقلب حاضرة معه غالبة عليه قد فرغ عن كل ما سواه ، لأن القلب إذا شغل بشيء خلا عن غيره أي شيء كان فإذا اشتغل بذكر الله تعالى وهو المقصود خلا لا محالة عن غيره ، وعند ذلك يلزمه أن يراقب وساوس القلب والخواطر التي تتعلق بالدنيا وما يتذكر فيه مما قدر مضى من أحواله وأحوال غيره ، فإنه مهما اشتغل بشيء منه ولو في لحظة خلا قلبه عن الذكر في تلك اللحظة ، وكان أيضا نقصانا فليجتهد في دفع ذلك ومهما دفع الوساوس كلها ورد النفس إلى هذه الكلمة جاءته الوساوس من هذه الكلمة وأنها ما هي وما معنى قولنا : الله ولأي معنى كان إلها وكان معبودا ، ويعتريه عند ذلك خواطر تفتح عليه باب الفكر ، وربما يرد عليه من وساوس الشيطان ما هو كفر وبدعة ومهما كان كارها لذلك ومتشمرا لإماطته عن القلب لم يضره ذلك وهي ، منقسمة إلى ما يعلم قطعا أن الله تعالى منزه عنه ، ولكن الشيطان يلقي ذلك في قلبه ويجريه على خاطره ، فشرطه أن يبالي به ويفزع إلى ذكر الله تعالى ويبتهل إليه ليدفعه عنه كما قال الله تعالى : وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله إنه سميع عليم وقال تعالى إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون وإلى ما يشك فيه ، فينبغي أن يعرض ذلك على شيخه ، بل كل ما يجد في قلبه من الأحوال من فترة أو نشاط أو التفات إلى علقة أو صدق في إرادة فينبغي أن يظهر ذلك لشيخه وأن يستره عن غيره ، فلا يطلع عليه أحدا ثم إن شيخه ينظر في حاله ويتأمل في ذكائه وكياسته فلو ، علم أنه لو تركه وأمره بالفكر تنبه من نفسه على حقيقة الحق ، فينبغي أن يحيله على الفكر ، ويأمره بملازمته حتى يقذف في قلبه من النور ما يكشف له حقيقته ، وإن علم أن ذلك مما لا يقوى عليه مثله رده إلى الاعتقاد القاطع بما يحتمله قلبه من وعظ وذكر ودليل قريب من فهمه وينبغي أن يتأنق الشيخ ويتلطف به ، فإن هذه مهالك الطريق ومواضع أخطارها فكم ، من مريد اشتغل بالرياضة فغلب عليه خيال فاسد لم يقو على كشفه فانقطع عليه طريقه ، فاشتغل بالبطالة وسلك طريق الإباحة ، وذلك هو الهلاك العظيم ومن تجرد للذكر ودفع العلائق الشاغلة عن قلبه لم يخل عن أمثال هذه الأفكار فإنه ، قد ركب سفينة الخطر ، فإن سلم كان من ملوك الدين ، وإن أخطأ كان من الهالكين ، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم - : " عليكم بدين العجائز " وهو تلقي أصل الإيمان ، وظاهر الاعتقاد بطريق التقليد والاشتغال بأعمال الخير فإن الخطر في العدول عن ذلك كثير ولذلك قيل يجب على الشيخ أن يتفرس في المريد فإن لم يكن ذكيا فطنا متمكنا من اعتقاد الظاهر لم يشغله بالذكر والفكر بل يرده إلى الأعمال الظاهرة والأوراد المتواترة أو يشغله بخدمة المتجردين للفكر لتشمله بركتهم فإن العاجز عن الجهاد في صف القتال ينبغي أن يسقي القوم ويتعهد دوابهم ليحشر يوم القيامة في زمرتهم وتعمه بركتهم ، وإن كان لا يبلغ درجتهم ثم المريد المتجرد للذكر والفكر قد يقطعه قواطع كثيرة من العجب والرياء والفرح بما ينكشف له من الأحوال وما يبدو من أوائل الكرامات ومهما التفت إلى شيء من ذلك وشغلت به نفسه كان ذلك فتورا في طريقه ووقوفا بل ينبغي أن يلازم حاله جملة عمره ملازمة العطشان الذي لا ترويه البحار ، ولو أفيضت عليه ويدوم على ذلك ورأس ماله الانقطاع عن الخلق إلى الحق والخلوة .

قال بعض السياحين قلت لبعض الأبدال المنقطعين عن الخلق : كيف الطريق إلى التحقيق فقال أن تكون في الدنيا كأنك عابر طريق وقال مرة : قلت له : دلني على عمل أجد قلبي فيه مع الله تعالى على الدوام فقال لي : لا تنظر إلى الخلق ، فإن النظر إليهم ظلمة قلت : لا بد لي من ذلك قال فلا تسمع كلامهم ، فإن كلامهم قسوة قلت : لا بد لي من ذلك قال فلا تعاملهم ، فإن معاملتهم وحشة قلت : أنا بين أظهرهم لا بد لي من معاملتهم قال : فلا تسكن إليهم فإن السكون إليهم هلكة : قلت هذا لعلة : قال : يا هذا أتنظر إلى الغافلين وتسمع كلام الجاهلين وتعامل البطالين ، وتريد أن تجد قلبك مع الله تعالى على الدوام ، هذا ما لا يكون أبدا .

فإذا منتهى الرياضة أن يجد قلبه مع الله تعالى على الدوام ولا يمكن ذلك إلا بأن يخلو عن غيره ولا يخلو عن غيره إلا بطول المجاهدة فإذا حصل قلبه مع الله تعالى انكشف له جلال الحضرة الربوبية وتجلى له الحق وظهر له من لطائف الله تعالى ما لا يجوز أن يوصف ، بل لا يحيط به الوصف أصلا وإذا انكشف للمريد شيء من ذلك ، فأعظم القواطع عليه أن يتكلم به وعظا ونصحا ويتصدى للتذكير فتجد النفس فيه لذة ليس وراءها لذة ، فتدعوه تلك اللذة إلى أن يتفكر في كيفية إيراد تلك المعاني وتحسين الألفاظ المعبرة عنها وترتيب ذكرها وتزيينها بالحكايات وشواهد القرآن والأخبار وتحسين صنعة الكلام لتميل إليه القلوب والأسماع فربما يخيل إليه الشيطان أن هذا إحياء منك لقلوب الموتى الغافلين عن الله تعالى ، وإنما أنت واسطة بين الله تعالى وبين الخلق تدعو عباده إليه ومالك فيه نصيب ولا لنفسك فيه لذة ويتضح كيد الشيطان بأن يظهر في أقرانه من يكون أحسن كلاما منه وأجزل لفظا وأقدر على .استجلاب قلوب العوام ، فإنه يتحرك في باطنه عقرب الحسد لا محالة إن كان محركه كيد القبول .

وإن كان محركه هو الحق حرصا على دعوة عباد الله تعالى إلى صراطه المستقيم ، فيعظم به فرحه ويقول : الحمد لله الذي عضدني وأيدني بمن وازرني على إصلاح عباده كالذي وجب عليه مثلا أن يحمل ميتا ليدفنه إذ وجده ضائعا وتعين عليه ذلك شرعا فجاء من أعانه عليه فإنه يفرح به ولا يحسد من يعينه والغافلون موتى القلوب والوعاظ هم المنبهون والمحيون لهم ففي كثرتهم استرواح وتناصر فينبغي أن يعظم الفرح بذلك وهذا عزيز على الوجود جدا فينبغي أن يكون المريد على حذر منه ، فإنه أعظم حبائل الشيطان في قطع الطريق على من انفتحت له أوائل الطريق فإن إيثار الحياة الدنيا طبع غالب على الإنسان ولذلك قال الله تعالى : بل تؤثرون الحياة الدنيا ثم بين أن الشر قديم في الطباع ، وأن ذلك مذكور في الكتب السالفة فقال : إن هذا لفي الصحف الأولى صحف إبراهيم وموسى فهذا منهاج رياضة المريد وتربيته في التدريج إلى لقاء الله تعالى فأما ، تفصيل الرياضة في كل صفة فسيأتي ، فإن أغلب الصفات على الإنسان بطنه وفرجه ولسانه ، أعني به الشهوات المتعلقة بها ثم الغضب الذي هو كالجند لحماية الشهوات ثم مهما أحب الإنسان شهوة البطن والفرج وأنس بهما أحب الدنيا ولم يتمكن منها إلا بالمال والجاه وإذا طلب المال والجاه حدث فيه الكبر والعجب والرياسة وإذا ظهر ذلك لم تسمح نفسه بترك الدنيا رأسا وتمسك من الدين بما فيه الرياسة ، وغلب عليه الغرور .

فلهذا وجب علينا بعد تقديم هذين الكتابين أن نستكمل ربع المهلكات بثمانية كتب إن شاء الله تعالى كتاب في كسر شهوة البطن والفرج وكتاب في آفات اللسان ، وكتاب في كسر الغضب والحقد والحسد ، وكتاب في ذم الدنيا وتفصيل خدعها وكتاب في ، كسر حب المال وذم البخل ، وكتاب في ذم الرياء وحب الجاه وكتاب في ذم الكبر والعجب ، وكتاب في مواقع الغرور وبذكر هذه المهلكات وتعليم طرق المعالجة فيها يتم غرضنا من ربع المهلكات إن شاء الله تعالى . فإن ما ذكرناه في الكتاب الأول هو شرح لصفات القلب الذي هو معدن المهلكات والمنجيات ، وما ذكرناه في الكتاب الثاني هو إشارة كلية إلى طريق تهذيب الأخلاق ومعالجة أمراض القلوب ، أما تفصيلها فإنه يأتي في هذه الكتب إن شاء الله تعالى تم كتاب رياضة النفس وتهذيب الأخلاق بحمد الله وعونه وحسن توفيقه يتلوه إن شاء الله تعالى كتاب كسر الشهوتين والحمد لله وحده ، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وعلى ، كل عبد مصطفى من أهل الأرض والسماء وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب .

.

[ ص: 381 ]

التالي السابق


(فإذا وجد مثل هذا المعتصم وجب على معتصمه أن يحميه ويعصمه بحصن حصين ، يدفع عنه قواطع الطريق ، وهي أربعة أمور: الخلوة والصمت والجوع والسهر ، وهذا يحصن من القواطع ، فإن مقصود المريد إصلاح قلبه ليشاهد ربه ويصلح لقربه) وعبارة الرسالة: لأنه يجب على المريد أن يجتهد ليعرف ربه، لا ليحصل لنفسه قدرا ، وفرق بين من يريد الله تعالى وبين من يريد جاه نفسه ، (أما الجوع فإنه ينقص دم القلب) لأنه لا يكون إلا من غذاء ، فإذا بطل الغذاء نقص الدم (فيبيضه) بأن يقل احمراره (وفي بياضه نوره) وجلاؤه ، ومن هنا قال يحيى بن معاذ الرازي: الجوع نور ، والشبع نار ، والشهوة [ ص: 372 ] مثل الحطب ، يتولد منه الإحراق ، ولا تنطفئ ناره حتى تحرق صاحبه (و) الجوع أيضا (يذيب شحم الفؤاد وفي ذوبانه رقته ورقته مفتاح المكاشفة كما أن قسوته سبب الحجاب) عن المكاشفات (ومهما نقص دم القلب ضاق منه سلك مسلك العدو) اللعين (فإن مجاريه العروق الممتلئة بالشهوات) كما في الخبر: " إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم " الحديث، وقد تقدم في كتاب الصوم (قال عيسى عليه السلام: يا معشر الحواريين جوعوا بطونكم لعل قلوبكم ترى ربكم) وفيه إشارة إلى أن الجوع يصفي الفؤاد ، فيكون محلا لإشراق الأنوار الإلهية (قال) أبو محمد (سهل) التستري رحمه الله تعالى : (ما صار الأبدال أبدالا إلا بأربع خصال : إخماص البطون ، والسهر ، والصمت ، والاعتزال عن الناس) نقله القشيري في الرسالة (ففائدة الجوع في تنوير القلب أمر ظاهر تشهد له التجربة ، وسيأتي بيان وجه التدريج فيه في كتاب كسر الشهوتين) وهو الكتاب الذي يليه (وأما السهر فإنه يجلو القلب ويصفيه) عن الكدورات (وينوره فينضاف ذلك إلى الصفاء الذي حصل من الجوع ويصير القلب) بمضاعفة الصفاء فيه (كالكوكب الدري) المضيء المتلألئ (والمرآة المجلوة) يبيض بعضه بنور الإسلام وبعضه بنور الإيمان ، وكله بنور الإحسان والإيقان ، فإذا ابيض القلب انعكس نوره على النفس (فيلوح فيه جمال الحق) أي: أشعة أنواره بأن تنجلي فيه (ويشاهد فيه رفيع الدرجات في الآخرة وحقارة الدنيا وآفاتها ، فتتم بذلك رغبته عن الدنيا) وإعراضه عنها (وإقباله على الآخرة) وللقلب وجه إلى النفس ووجه إلى الروح ، وللنفس وجه إلى القلب ووجه إلى الطبع والغريزة ، والقلب إذا لم يبيض كله لم يتوجه إلى الروح بكله ، ويكون ذا وجهين وجه إلى الروح ، ووجه إلى النفس ، فإذا ابيض توجه إلى الروح بكله ، فيتدارك مدد الروح ويزداد إشراقا وتنورا ، وكلما انجذب القلب إلى الروح انجذبت النفس إلى القلب ، وكلما انجذبت توجهت بوجهها الذي يليه وتنور النفس لتوجهها إلى القلب بوجهها الذي يلي القلب، (والسهر أيضا نتيجة الجوع) وثمرته (فإن السهر مع الشبع غير ممكن) لأن الشبع يرخي العروق والأعصاب ويجره إلى النوم (والنوم يقسي القلب ويميته إلا إذا كان بقدر الضرورة) فإنه لا بد منه وهو سبعون درجة بين الليل والنهار (فيكون سبب المكاشفة لأسرار الغيب ، فقد قيل في صفة الأبدال: إن أكلهم فاقة ونومهم غلبة وكلامهم ضرورة) نقله صاحب القوت وصاحب الرسالة وصاحب العوارف (وقال أبو إسحاق إبراهيم بن أحمد الخواص) من أقران الجنيد مات بالري سنة 291 رحمه الله تعالى (اجتمع رأي سبعين صديقا على أن كثرة النوم من كثرة شرب الماء) نقله القشيري وصاحب القوت، وذلك أن الإكثار من الماء يرخي العروق لامتلائها به ، فيكون سببا للفتور في الأعضاء والكسل فيغلب النوم (وأما الصمت) وهو قلة الكلام (فإنه يسهل العزلة) عن الناس فإنه إذا لم يجد عنده أحدا لا يتكلم، (ولكن المعتزل لا يخلو عن مشاهدة من يقوم له بطعام وشراب أو تدبير أمر) من أموره (فينبغي أن لا يتكلم إلا بقدر الضرورة) وهذا معنى قولهم كلام الأبدال عن ضرورة (فإن الكلام يشغل القلب) عن مراقبة المذكور (وشره القلب إلى الكلام عظيم فإنه يستروح إليه) ويستحليه (ويستثقل التجرد للذكر والفكر) لما فيه من المشقة (ويستريح إليه) أي: إلى الكلام (فالصمت يلقح العقل ويجلب الورع ويعلم التقوى) كما سيأتي بيان ذلك (وأما الخلوة ففائدتها دفع الشواغل وضبط السمع والبصر) عن تطرق شيء إليهما (فإنهما دهليز القلب في حكم حوض انصبت إليه مياه كدرة) متغيرة (قذرة من أنهار الحواس) الظاهرة (ومقصود الرياضة

[ ص: 373 ] تفريغ الحوض من تلك الماء) والإخلاء منها (ومن الطين الحاصل منها لينحفر أسفل الحوض فينفجر منه الماء اللطيف الطاهر) لا كدر ولا قذر ولا يحصل الانفجار إلا بنزح تلك المياه عنه (فكيف يصح أن ينزح الماء من الحوض والأنهار مفتحة إليه فيتجدد في كل حالة أكثر مما ينقص ، فلا بد من ضبط الحواس) من تطرق شيء منها إلى القلب (إلا عن قدر الضرورة ، وليس) يتم (ذلك إلا بالخلوة في مكان مظلم) لأنه يحفظ حاسة البصر من تبددها (فإن لم يكن مكان مظلم فيلف رأسه في جيبه أو يتدثر بكساء أو إزار) بأن يلقيه على رأسه فيتقنع به ، وهذه هي الخلوة الصغرى وهي مانعة عن تبدد حاسة البصر إلى المرئيات ، ولو لم يكن في خلوة (ففي مثل هذه الحالة يسمع نداء الحق ، ويشاهد جلال الحضرة الربوبية) لجمع حواسه (أما ترى أن نداء رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بلغه وهو على هذه الصفة ، وقيل له: يا أيها المزمل ، يا أيها المدثر ) قال العراقي : متفق عليه من حديث جابر: " جاورت بحراء ، فلما قضيت جواري هبطت فنوديت فنظرت عن يميني" الحديث. وفيه فأتيت خديجة فقلت: " دثروني ، وصبوا علي ماء باردا" قال: فنزلت: يا أيها المدثر وفي رواية فقال: " زملوني زملوني" ولهما من حديث عائشة فقال: " زملوني زملوني " فزملوه حتى ذهب عنه الروع اهـ .

قلت: لفظ حديث جابر أخرجاه من طريق أبي سلمة بن عبد الرحمن قال: سألت جابر بن عبد الله عن أول ما نزل من القرآن ، فقال: حدثنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: " جاورت بحراء ، فلما قضيته جواري هبطت فنوديت ، فنظرت عن يميني فلم أر شيئا ، ونظرت عن شمالي فلم أر شيئا ، ونظرت خلفي فلم أر شيئا ، فرفعت رأسي ، فإذا الملك الذي جاءني بحراء جالس على كرسي بين السماء والأرض ، فجثثت منه رعبا فرجعت فقلت: دثروني فدثروه فنزلت: يا أيها المدثر قم فأنذر إلى قوله: والرجز فاهجر " وكذلك رواه عبد الرزاق والطيالسي وأحمد وعبد بن حميد والترمذي وابن الضريس وابن جرير وابن المنذر وابن مردويه وابن الأنباري في المصاحف ، ويروى عن إبراهيم النخعي قال: كان -صلى الله عليه وسلم- متدثرا في قرطف -يعني شملة صغيرة الخمل-. أخرجه سعيد بن منصور ، وأخرج البزار والطبراني في الأوسط ، وأبو نعيم في الدلائل عن جابر قال: اجتمعت قريش في دار الندوة فقالوا: سموا هذا الرجل اسما تصدوا الناس عنه ، فقالوا: كاهن. قالوا: ليس بكاهن. قالوا: مجنون. قالوا: ليس بمجنون. قالوا: ساحر. قالوا: ليس بساحر. قالوا: يفرق بين الحبيب وحبيبه. فتفرق المشركون على ذلك ، وبلغ ذلك النبي -صلى الله عليه وسلم- فتزمل في ثيابه وتدثر فيها ، فأتاه جبريل فقال: يا أيها المزمل ، يا أيها المدثر .

(فهذه الأربعة جنة وحصن تدفع) عنه القواطع وتمنع (عنه العوارض القاطعة للطريق فإذا فعل ذلك اشتغل بعده بسلوك الطريق ، وإنما سلوكه بقطع العقبات) محركة هي الثنايا في الجبال (ولا عقبة في طريق الله إلا صفات القلب التي سببها الالتفات إلى الدنيا وبعض تلك العقبات أعظم من بعض ، والترتيب) الكلي (في قطعها أن يشتغل بالأسهل فالأسهل يكون أعون له في القطع ، وهي تلك الصفات ، أعني أسرار العلائق التي قطعها في أول) دخوله في (الإرادة وآثارها) أي: الصفات ، (أعني آثار المال والجاه وحب الدنيا والالتفات إلى الخلق والتشوف إلى المعاصي ، فلا بد وأن يخلي الباطن عن آثارها كما أخلى الظاهر عن أسبابها الظاهرة ، وفيه تطول المجاهدة) وتتضاعف المشقات (ويختلف ذلك باختلاف الأحوال) والأشخاص (فرب شخص قد كفي أكثر الصفات) فيقل التفاته إلى الدنيا (فلا تطول عليه المجاهدة) وقد يسلب تلك الصفات بأجمعها ، فلا تكون له همة سوى الله تعالى ، فلا يحتاج إلى مجاهدة ، وأصحاب هذا المقام بعد وصولهم إلى الله تعالى قد يشتاقون إلى المجاهدة والرياضة تكميلا للمقامات ، (وقد ذكرنا أن طريق المجاهدة مضادة الشهوة ومخالفة الهوى في كل صفة غالبة على نفس المريد ، كما سبق ذكره ، فإذا كفى ذلك أو ضعف بالمجاهدة) والرياضة (ولم يبق في قلبه علقة) أي: علاقة حسية ولا معنوية؛ لأن بناء هذا الطريق على فراغ القلب (تشغله بعد

[ ص: 374 ] ذلك بذكر يلزم قلبه على الدوام ويمنعه من تكثير الأوراد الظاهرة) من نوافل الصلاة وغيرها (بل يقتصر على الفرائض والرواتب) قال القشيري في الرسالة: وليس من آداب المريد كثرة الأوراد في الظاهر ، فإن القوم في مكابدة خواطرهم ومعالجة أخلاقهم ونفي الغفلة عن قلوبهم لا في تكثير أعمال البر ، والذي لا بد لهم منه إقامة الفرائض والسنن الراتبة ، فأما الزيادة من الصلوات النافلة فاستدامة الذكر بالقلب أتم لهم (ويكون ورده وردا واحدا وهو لباب الأوراد) وخلاصتها (وثمرتها أعني ملازمة القلب لذكر الله تعالى بعد الخلو عن ذكر غيره ، ولا يشغله به ما دام قلبه ملتفتا إلى علائقه) وشواغله ، قال القشيري في الرسالة: وما لم يتجرد المريد عن كل علاقة لا يجوز لشيخه أن يلقنه شيئا من الأذكار، بل يجب أن يقدم على ذلك التجربة (قال) أبو بكر (الشبلي للحصري) هو أبو الحسن علي بن إبراهيم البصري ، سكن بغداد ، مات بها سنة 371 : إن (كان يخطر على قلبك) ، ولفظ الرسالة: وكان الشبلي يقول للحصري في ابتداء أمره: إن خطر ببالك (من الجمعة إلى الجمعة) الثانية (التي تأتيني) ، وفي نسخة: تأتينا ، وفي أخرى تأتي (غير الله) تعالى أي : إذا سكن قلبك إلى غير الله (فحرام عليك أن تأتيني) ولفظ الرسالة: أن تحضرني أي فلا تصحبني ، وفائدة قوله: من الجمعة إلى الجمعة ، تعليمه دوام وده لما خطر له من ذلك ، فإنه إذا دام الود قوي القلب بما دام عليه (وهذا التجرد لا يمكن إلا مع صدق الإرادة واستيلاء حب الله تعالى على القلب ، حتى يكون في صورة العاشق المستهتر الذي ليس له إلا هم واحد) .

وتقدم عن الأستاذ أبي علي أنه قال: الإرادة لوعة في الفؤاد لدغة في القلب غرام في الضمير انزعاج في الباطن . فهذه كلها صفات العاشق ، وبتمامها يتم صدق الإرادة .

(فإذا صار كذلك ألزمه الشيخ زاوية) من زوايا البيت (ينفرد بها) بنفسه (ويوكل به من يقوم له بقدر يسير من القوت الحلال ، فإن أصل طريق الدين القوت الحلال) وكل مريد لم يراع ذلك لا يجيء منه شيء في الطريق، (وعند ذلك يلقنه ذكرا من الأذكار حتى يشتغل به لسانه وقلبه) معا (فيجلس ويقول مثلا: الله الله الله ، أو سبحان الله، أو ما يراه الشيخ من الكلمات) المناسبة لحاله في سلوكه ، فمن غلب عليه الجذب فهذا ذكره ، ومن غلب عليه السلوك فالمناسب له النفي والإثبات ، كما تقدمت الإشارة إليه، (ولا يزال) المريد (يواظب عليه حتى يسقط الأثر عن اللسان وتبقى صورة اللفظ في القلب ، ثم لا يزال كذلك حتى تنمحي عن القلب حروف اللفظ وصورته ، وتبقى حقيقة معناه لازما للقلب حاضرا معه غالبا عليه) ، ولفظ الرسالة: فإذا جربه شيخه فيجب أن يلقنه ذكرا من الأذكار على ما يراه شيخه ، فيأمره أن يذكر ذلك الاسم بلسانه ، ثم يأمره أن يسوي قلبه مع لسانه فيقول: اثبت على استدامة هذا الذكر كأنك مع ربك أبدا بقلبك ، ولا يجري على لسانك غير هذا الأمر ما أمكنك (قد فرغ القلب) أي: أخلاه (عن كل ما سواه ، لأن القلب إذا شغل بشيء خلا عن غيره أي شيء كان) ؛ لأنه ليس له إلا وجهة واحدة (فإذا شغل بذكر الله) تعالى (وهو المقصود) الأعظم (خلا لا محالة عن غيره ، وعند ذلك) أي: بعد تفريغ القلب عن السوى ، وإثبات ذكر الله فيه (يلزمه) أي: المريد (أن يراقب) أي: يحافظ (وساوس القلب والخواطر التي تتعلق بالدنيا وما يتذكر فيه) أي: في القلب (مما مضى من أحواله وأحوال غيره ، فإنه مهما اشتغل بالشيء منه ولو في لحظة خلا قلبه عن الذكر) والفكر (في تلك اللحظة ، وكان ذلك نقصانا) لحاله ، وعبارة الرسالة: ثم يأمره بإيثار الخلوة والعزلة ، ويجعل اجتهاده في هذه الحالة لا محالة نفي الخواطر الدنية والهواجس الشاغلة عن القلب (فليجتهد في دفع ذلك) عن قلبه (ومهما دفع الوساوس كلها ورد النفس إلى هذه الكلمة) التي لقنها له شيخه (جاءته الوساوس من هذه الكلمة وإنها ما هي)

[ ص: 375 ] أي: ما حقيقتها ، وأنه يقبح بالمريد الذاكر أن لا يتحقق حقيقة ما يذكره (وما معنى قولنا: الله) هل هو مبتدأ خبره محذوف ، أو بالعكس ، وما المحذوف الذي يقدر هنا (ولأي معنى كان إلها معبودا ، ويعتريه عند ذلك خواطر) مختلفة (تفتح عليه باب الفكر ، وربما يرد عليه من وساوس الشيطان ما هو كفر) صراح (أو بدعة) مذمومة (ومهما كان كارها لذلك ومشمرا لإماطته) أي: إزالته (عن القلب لم يضره ذلك ، والخواطر منقسمة إلى ما يعلم قطعا أن الله) تعالى (منزه عنه ، ولكن الشيطان يلقي ذلك في قلبه ويجريه على خاطره ، فشرطه أن لا يبالي به) ولا يهتم له (ويفزع إلى ذكر الله) تعالى (ويبتهل إليه) ويتضرع بباطنه (ليدفعه عنه كما قال الله تعالى: وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله إنه سميع عليم إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون ) وعبارة الرسالة: واعلم أنه يكون للمريدين على الخصوص بلايا من هذا الباب ، وذلك أنهم إذا دخلوا في مواضع ذكرهم ، أو كان في مجالس سماع أو غير ذلك ، فيهجس في نفوسهم ويخطر ببالهم أشياء منكرة ، يتحققون أن الله منزه عن ذلك وليس تعتريهم شبهة في أن ذلك باطل ، ولكن يدوم ذلك فيشتد تأذيتهم به حتى يبلغ ذلك حدا يكون أصعب شتم ، وأقبح قول ، وأشنع خاطر لا يمكن للمريد إجراء ذلك على اللسان ولا إبداؤه لأحد ، وهذا أشد شيء يقع لهم ، فالواجب عند هذا ترك مبالاتهم بتلك الخواطر واستدامة الذكر والابتهال إلى الله تعالى ، واستدفاع ذلك ، وتلك الخواطر ليست من وسواس الشيطان ، وإنما هي من هواجس النفس ، فإذا قابلها العبد بترك المبالاة لها ينقطع ذلك عنه اهـ كلام القشيري : وأنت ترى أنه جعل ما يجري على قلب المريد بما ذكر من هواجس النفس لا من وساوس الشيطان ، والمصنف جعله من الوساوس ، والأمر في ذلك سهل قريب، وقد تقدم للمصنف ذكر حديث: إن الشيطان يأتي أحدكم فيقول: من خلق كذا؟ من خلق كذا؟ حتى يقول: من خلق ربك؟ فإذا كان ذلك فليستعذ بالله ولينته ، وجاء بعض الصحابة إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقالوا: تقع في نفوسنا أمور يود أحدنا أن يخر من السماء فتخطفه الطير ولا يقع له ذلك ، فقال: أوجدتموه؟ قالوا : نعم. قال: ذلك صريح الإيمان ، يعني ردهم لذلك أو تألمهم وتمنيهم الموت مما وقع لهم لا نفس الوسوسة ، وحاصله أنه إذا ضاق على المريد شيء من ذلك التجأ إلى الله فيه ، واستعاذ به ، وأعرض عن الفكرة فيه ، فإن الله يزيله عن قلبه ويقوي يقينه ، والله الموفق .

(وإلى ما يشك فيه ، فينبغي أن يعرض ذلك على شيخه، بل كل ما يجد في قلبه من الأحوال من فترة) في الإرادة أو في السلوك (أو نشاط) فيهما (أو التفات إلى علقة) دنيوية أو أخروية (أو صدق في إرادة فينبغي أن يظهر ذلك لشيخه ويسره) أي: يكتمه (من غيره ، فلا يطلع عليه أحدا) وعبارة الرسالة: ثم يجب عليه حفظ سره حتى عن زره إلا عن شيخه ، ولو كتم نفسا من أنفاسه عن شيخه فقد خانه في حق صحبته اهـ .

وذلك لأن الشيخ قد ترك شغله مع مولاه في خاصته وعاهد الله على أن يفرغ قلبه في إصلاح هذا المريد ، فحقه أن لا يكتم عنه شيئا ليفعل به ما يراه إصلاحا له ، (ثم إن شيخه ينظر في حاله ويتأمل في ذكائه وكياسته ، فإن علم أنه لو تركه أو أمره بالفكر تنبه من نفسه لحقيقة الحق ، فينبغي أن يحيله على الفكر ، ويأمره بملازمته حتى يقذف في قلبه من النور ما) ينشرح به صدره و (ينكشف له به حقيقته ، وإن علم أن ذلك مما لا يقوى عليه مثله رده إلى الاعتقاد الصحيح بما يحتمل القلب من وعظ) ونصيحة (وذكر دليل قريب من فهمه) .

ونص القشيري : واعلم أن المريد قلما يخلو في أوان خلوته في ابتداء إرادته من الوساوس في الاعتقاد لا سيما إن كان في المريد كياسة قلب ، وقلما مريد لا تستقبله هذه الحالة في ابتداء إرادته ، وهذه من الامتحانات التي تستقبل المريد ، فالواجب على شيخه إن رأى فيه كياسة أن يحيله على الحجج العقلية ، فإن بالعلم يتخلص لا محالة المعترف فيما يعتريه من الوسواس، وإن تفرس شيخه فيه القوة والثبات في الطريق أمره بالصبر واستدامة الذكر ، حتى تسطع في قلبه أنوار القبول ، وتطلع في سره شموس الوصول ، وعن قريب يكون ذلك ، ولكن لا يكون هذا إلا لأفراد المريدين ، فإن الغالب أن تكون معالجتهم بالرد إلى النظر وتأمل الآيات

[ ص: 376 ] بشرط تحصيل علم الأصول على قدر الحاجة الداعية للمريدين .

(وينبغي أن يتأنق ويتلطف به ، فإن هذه مهالك الطريق ومواقع أخطارها ، وكم من مريد اشتغل بالرياضة)وسلك سبيل المجاهدة (فغلب عليه خيال فاسد لم يقو على كشفه) وإزالته عن قلبه (فانقطع عليه طريقه ، فاشتغل بالبطالة وسلك طريق الإباحة ، وذلك هو الهلاك العظيم) قال القشيري في الرسالة: وقفة المريد شر من فترته ، والفرق بين الفترة والوقفة أن الفترة رجوع عن الإرادة وخروج منها ، والوقفة سكون عن السر باستحلاء حالة الكسل ، وكل مريد وقف في ابتداء إرادته لا يجيء منه شيء (ومن تجرد للفكر ودفع العلائق الشاغلة عن قلبه لم يخل عن أمثال هذه الأفكار ، فكأنه قد ركب سفينة الخطر ، فإن سلم كان من ملوك الدين ، وإن أخطأ كان من الهالكين ، ولذلك قال -صلى الله عليه وسلم- : " عليكم بدين العجائز") قال العراقي : قال ابن طاهر في كتاب التذكرة: هذا اللفظ تداوله العامة ولم أقف له على أصل يرجع إليه من رواية صحيحة ولا سقيمة ، حتى رأيت حديثا لمحمد بن عبد الرحمن بن البيلماني ، عن أبيه ، عن ابن عمر ، عن النبي -صلى الله عليه وسلم- إذا كان في آخر الزمان واختلفت الأهواء فعليكم بدين أهل البادية والنساء . وابن البيلماني له عن أبيه عن ابن عمر نسخة كان يتهم بوضعها اهـ .

وهذا اللفظ من هذا الوجه رواه ابن حبان في الضعفاء في ترجمة ابن البيلماني، والله أعلم. اهـ .

قلت: ورواه من هذا الوجه أيضا الديلمي في مسند الفردوس ، وأورده الذهبي في الميزان في ترجمة محمد بن الحارث ، عن ابن البيلماني ، ثم قال: ومن عجائبه هذا الحديث. وعبارة ابن حبان في الضعفاء في ترجمته: حدث عن أبيه نسخة شبيهة بمائتي حديث كلها موضوعة ، لا يجوز الاحتجاج به ، ولا ذكره إلا على وجه التعجب اهـ .

ونظرا إلى ظاهر سياقه مشى غالب الحفاظ على أنه موضوع ، وفيه نظر. قال السخاوي: وعند رزين في جامعه مما أضافه لعمر بن عبد العزيز ينميه لعمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: تركتم على الواضحة ليلها كنهارها ، كونوا على دين الأعراب والغلمان والكتاب اهـ .

وقد أشار المصنف إلى معناه فقال: (وهو تلقي أصل الإيمان ، وظاهر الاعتقاد بطريق التقليد والاشتغال بأعمال الخير) قال ابن الأثير في جامع الأصول بعد إيراده ما سبق عن رزين: أراد بقوله دين الأعراب والغلمان الوقوف عند قبول ظاهر الشريعة واتباعها من غير تفتيش عن الشبه ، وتنقير عن أقوال أهل الزيغ والأهواء ، ومثله قوله: " عليكم بدين العجائز" اهـ .

وهذا السياق يدل على أن الحديث له أصل اهـ .

قلت: ومنهم من يزيد بعد قوله: " العجائز " " الماء والمحراب " ، ولم أجد له أصلا ، وكأنه تفسير لمعناه (فإن الخطر في العدول عن ذلك كثير) فمن لم يسمع اختلاف المذاهب وتضليل أهلها بعضهم بعضا كان أمره أهون ، فمن سمع منها وهو جاثم لا يشخص به طلب التمييز بين الحق والباطل ، ولهذا كان الفخر الرازي فيما نقله عنه الحافظ ابن حجر مع تبحره في الأصول يقول: من التزم دين العجائز فهو الفائز. وقال ابن السمعاني في الذيل عن الهمداني: سمعت أبا المعالي -يعني إمام الحرمين- يقول: قرأت خمسين ألفا في خمسين ألفا ، ثم خليت أهل الإسلام بإسلامهم فيها وعلومهم الظاهرة ، وركبت البحر الخضم ، وغصت في الذي نهي أهل الإسلام عنه ، وكل ذلك في طلب الحق وهربا من التقليد ، والآن فقد رجعت من العمل إلى كلمة الحق: " عليكم بدين العجائز" فإن لم يدركني الحق بلطفه ، وأموت على دين العجائز . ويختم: عاقبة أمري عند الرحيل على أهل الحق وكلمة الإخلاص: لا إله إلا الله ، فالويل لابن الجويني .

(ولهذا يجب على الشيخ أن يتفرس في المريد) أي: ينظر إليه بنور الإيمان وفراسته (فإن لم يكن ذكيا فطنا متمكنا من اعتقاد الظاهر لم يشغله بالذكر والفكر) لأن مثله ترد عليه في أثناء ذكره وفكره شبه ووساوس ربما تتمكن من قلبه ، وليس عنده التمكن في أصل الاعتقاد ، فيضره ذلك ، ولا يجيء منه في الطريق شيء، (بل يرده إلى الأعمال الظاهرة) كصلاة الليل وصلاة الضحى والإشراق والأوابين ، ومتابعة الصيام والأوراد المتواترة ، وأفضلها القرآن (ويشغله بخدمة المتجردين للفكر) والذكر من كنس خلاويهم وملء أباريقهم (لتشمله بركتهم) ويعمه أمدادهم (فإن العاجز عن المجاهدة في صف القتال ينبغي أن يسقي القوم) ، ويعينهم في أمورهم ، (ويتعهد دوابهم) بالربط والسقي

[ ص: 377 ] والتعليق ويداوي جرحاهم (ليحشر يوم القيامة في زمرتهم وتعمه بركتهم ، وإن كان لا يبلغ درجتهم) والأعمال بالنيات (ثم المريد المتجرد للذكر والفكر قد تقطعه قواطع كثيرة) وتصيبه بلايا (من العجب والرياء والفرح بما ينكشف) له (من الأحوال) السنية (وما يبدو من أوائل الكرامات) وهي ما يكرمه الله تعالى به (ومهما التفت إلى شيء من ذلك وشغل به نفسه كان ذلك فتورا في طريقه) وهو الإعراض عن الإرادة والسلوك والترك لما هو فيه (أو وقوفا) وهو السكون عن السير باستلذاذ حالة الكسل ، والثاني أشد من الأول لأن من استلذ حالة لم ينتقل عنها لمحبته لها ، بخلاف صاحب الوقوف فإنه يرجى له الرجوع إلى ما كان عليه ، فإذا حصل للمريد الوقوف في أوائله لا يجيء منه شيء؛ لأنه يفتقد كمال نفسه واستحسان حاله فيبعد منه الانتقال إلى ما هو أعلى، (بل ينبغي أن يلازم حاله جملة عمره ملازمة العطشان الذي لا ترويه البحار ، ولو أفيضت عليه ويداوم عليه) مداومة العاشق المستهتر الذي لا يسمع دون محبوبه عذل المفند فيه (ورأس ماله الانقطاع عن الخلق والخلوة) عنهم حتى تجتمع له حواسه .

(قال بعض) هذه الطائفة من (السائحين) في الأرض (قلت لبعض الأبدال المنقطعين عن الخلق: كيف الطريق إلى التحقيق) والوصول إلى الحق؟ قال: لا تنظر إلى الخلق، (وقال مرة: قلت له: دلني على عمل أعمله أجد فيه قلبي مع الله تعالى في كل وقت على الدوام) أي: من غير أن يرد عليه ما يمنعه عنه (فقال لي: لا تنظر إلى الخلق ، فإن النظر إليهم ظلمة) أي: يورث ظلمة في القلب ، فيكون سبب الحجاب بينك وبين الله تعالى (قلت: لا بد لي من ذلك) أي: من النظر إليهم ، (قال) فإذا نظرت إليهم (فلا تسمع كلامهم ، فإن كلامهم قسوة) أي: يورث القسوة والغلظة في القلب ، فهو أيضا حجاب (قلت: لا بد لي من ذلك) أي: من سماع كلامهم ولا أستغني عن ذلك ، (قال) فإذا سمعت كلامهم (فلا تعاملهم ، فإن معاملتهم وحشة) أي: يورث الوحشة والتنافر في القلوب ، وهو أيضا حجاب (قلت: أنا بين أظهرهم لا بد لي من معاملتهم) فكيف أفعل؟ (قال: فلا تسكن إليهم) بقلبك (فإن السكون إليهم) بالقلب (هلكة) أي: هلاك أبدي (قال: قلت: هذه هي العلة) كذا في النسخ ، والذي في القوت: قلت: هذه العلة (قال: يا هذا تنظر إلى الغافلين وتسمع كلام الجاهلين وتعامل البطالين ، وتريد أن تجد قلبك مع الله عز وجل على الدوام ، هذا ما لا يكون أبدا) أورده صاحب القوت (فإذا منتهى الرياضة أن يجد قلبه مع الله أبدا) بحيث لا يتخلل في هذا الوجدان شيء يخالفه، (ولا يمكن ذلك إلا بأن يخلو من غيره) فلا يكون لخطورة فيه مساغ (ولا يخلو عن غيره إلا بطول المجاهدة) ولا تتم المجاهدة إلا بمخالفة النفس ، فحينئذ تحصل له مبادئ الهداية المفهومة من قوله تعالى: والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا فإذا تمت له الهداية ارتقى إلى مقام الإحسان الذي فسر في الحديث: " أن تعبد ربك كأنك تراه " وإليه الإشارة بقوله: وإن الله لمع المحسنين أي بمعية الشهود والانكشاف (فإذا حصل قلبه مع الله) عند دخوله في حظيرة الإحسان (انكشف له جلال الحضرة الربوبية) الجامعة للحضرات الأربعة (وتجلى له الحق) من وراء حجاب من الحجب الأسمائية (وظهر من لطائف رحمة الله تعالى ما لا يجوز أن يوصف، بل لا يحيط به الوصف أصلا) وأراد بذلك التجلي الصفاتي الذي مبدؤه صفة من الصفات من حيث تعينها وامتيازها عن الذات ، ودل على ذلك قوله: وظهر. . إلخ. وذلك لأن التجلي الذي مبدؤه الذات من غير اعتبار صفة من الصفات معها لا يتحصل إلا بواسطة الأسماء والصفات ، إذ لا يتجلى الحق من حيث ذاته على الموجودات إلا من وراء حجاب من الحجب الأسمائية ، وأصل التجلي هو ما ينكشف للقلوب من أنوار الغيوب ، وإنما جمع الغيوب باعتبار تعدد أمور التجلي ، فإن لكل اسم إلهي بحسب حيطته ووجوهه تجليات متنوعة (وإذا انكشف للمريد شيء من ذلك ، فأعظم القواطع عليه أن

[ ص: 378 ] يتكلم به وعظا ونصحا) أي: بطريقهما (ويتصدى للتذكير) على ملأ من الناس (فتجد النفس فيه لذة) غريبة (ليس وراءها لذة ، فتدعوه تلك اللذة إلى أن يتفكر في كيفية إيراد تلك المعاني وتحسين الألفاظ المعبرة عنها) بأنواع البلاغة والجزالة (وترتيب ذكرها وتزيينها بالحكايات) المناسبة لها (وشواهد القرآن والأخبار) لكل معنى من تلك المعاني (وتحسين صورة الكلام) بالألحان (لتميل إليه القلوب والأسماع) وترغب إليه ، وهذا حسن في الجملة إذا كان من غير قصد مع حسن النية (و) لكن (الشيطان ربما يخيل إليه أن هذا منك إحياء لقلوب الموتى الغافلين عن الله عز وجل ، وإنما أنت واسطة بين الله وبين الخلق لدعوة عباده إليه) وهذا مقام شريف (وما لك فيه نصيب ولا لنفسك فيه لذة) فإذا خيل له ذلك واستقر في قلبه حصل له الركون والسكون ، وهو عين الهلاك إن لم يأخذ الله بيده (ويتضح كيد الشيطان بأن يظهر في أقرانه) وذوي عصره (من يكون أحسن كلاما) منه (وأجزل لفظا وأقوى على جلب قلوب العوام ، فإنه يتحرك في باطنه لا محالة عقرب الحسد) ويدب فيه (إن كان محركه لذة القبول) بين العامة (وإن كان محركه هو الحق حرصا على دعوة عباد الله إلى صراطه المستقيم ، فيعظم فرحه بذلك) وينشرح صدره (فيقول: الحمد لله الذي عضدني وأيدني) أي: قواني (بمن يؤازرني) ويعينني (على إصلاح عباده) فهذا هو التمييز بين المحركين (كالذي وجب عليه) وجوب كفاية (مثلا أن يحمل ميتا) أي: يجهزه بالغسل والتكفين (ليدفنه إذا وجده ضائعا وتعين عليه ذلك شرعا فجاء من أعانه عليه فإنه يفرح به ولا يحسد من يعينه) ولا يخطر ذلك بباله (والغافلون) عن طريق الحق (موتى) أي: بمنزلة الأموات ، وإن كانوا أحياء في الظاهر (والوعاظ هم المنبهون) لهم عن رقدة الغفلة (والمحيون لهم) من موتة القلوب (ففي كثرتهم استرواح وتناصر) وتعاون (فينبغي أن يعظم الفرح بذلك) ويكثر السرور به (وهذا عزيز الوجود جدا) لاستحواذ الشيطان على قلوب أكثر الخلق (فينبغي أن يكون المريد على حذر منه ، فإنه أعظم حبائل الشيطان) وأكبر مصائده وفخوخه (في قطع الطريق على من انفتح له أوائل الطريق) قال القشيري : أضر الأشياء بالمريد استئناسه بما يلقى إليه في سره من تقريبات الحق سبحانه ومنته عليه ، بأن خصصتك بهذا وأفردتك عن أشكالك ، فإنه لو قال بترك هذا فعن قريب يستخطف عن ذلك بما يبدو له من مكاشفات الحقيقة اهـ .

(فإن إيثار الحياة الدنيا طبع غالب على الإنسان) قد جبل عليه (ولذلك قال تعالى: بل تؤثرون الحياة الدنيا والآخرة خير ) أي: يختارونها على الآخرة فلا يفعلون ما يسعدهم في الآخرة ، ولو علموا علما يقينا فناءها وبقاء الآخرة لما آثروها (ثم بين أن الشر قديم في الطباع ، وأن ذلك مذكور في الكتب السالفة) أي: الماضية (فقال: إن هذا لفي الصحف الأولى صحف إبراهيم وموسى ) بدل من الصحف الأولى ، قال السدي: إن هذه السورة نزلت في صحف إبراهيم وموسى مثل ما نزلت على النبي -صلى الله عليه وسلم- أخرجه ابن أبي حاتم ، وقال أبو العالية: قصة هذه السورة في الصحف الأولى ، أخرجه ابن جرير ، وقال الحسن: أي في كتب الله كلها ، أخرجه ابن أبي حاتم ، وفي حديث أبي ذر من تخريج عبد بن حميد وابن مردويه وابن عساكر: قلت: يا رسول الله هل أنزل الله عليك بشيء مما كان في صحف إبراهيم وموسى؟ قال: يا أبا ذر ، نعم ، قد أفلح من تزكى وذكر اسم ربه فصلى بل تؤثرون الحياة الدنيا والآخرة خير وأبقى وفي هذا الحديث أن الله تعالى أنزل على إبراهيم عشر صحائف ، وعلى موسى قبل التوراة عشر صحائف ، وقد آثر المصنف ختم هذا الكتاب بما ختم الله به هذه السورة لما فيها من تزكية النفس من الأدناس ، وذكر الله تعالى ، والصلاة ، والتنبيه على إيثار الآخرة ، وترك شهوات الدنيا ولذاتها ، وأن الآخرة هي دار البقاء ، وفي كل ذلك تهذيب

[ ص: 379 ] للنفوس ، وهو معظم مقصود الكتاب ، ولذلك قال: (فهذا منهاج رياضة المريد وتربيته في التدريج إلى لقاء الله تعالى ، أما تفصيل الرياضة في كل صفة فسيأتي بيانه ، فإن أغلب الصفات على الإنسان بطنه وفرجه ولسانه ، أعني به الشهوات المتعلقة بها) اعلم أن النفس كما تقدم مجبولة على صحبة العاجل وإيثاره على الآجل ، ولها قوتان جالبة ودافعة ، فالجالبة الشهوة ، وأعظمها ما تعلق بالبطن والفرج واللسان ، وأما الدافعة فأشار لها بقوله: (ثم الغضب الذي هو كالجند لحماية الشهوات) وله ثمرات مذمومة يأتي بيانها ، (ثم مهما أحب الإنسان شهوة البطن والفرج وأنس بها) بحيث استولت على قلبه (أحب الدنيا) وآثرها لنفسه ، وهكذا شأن المحب للشيء يؤثره على غيره (لا يتمكن منها إلا بالمال والجاه) وهما ركنان عظيمان (وإذا طلب المال والجاه حدث فيه الكبر والعجب والرياسة) والعلو وأصناف الشهوة العقلية وظهر من سياق المصنف أن ظهور هذه الأوصاف في المريدين نتائج القوة الجالبة ، وهو ظاهر ، ولكن هذه القوة بنفسها لا تحدث هذه الأصناف إلا بمجاورتها العقل ، فإنه الذي يكسبها محبة تلك الأوصاف لما تقدم أن العقل له وجهان: وجه إلى النفس ووجه إلى الروح ، كما أن بمجاورة النفس الشيطان تحدث صفات آخر كالمكر والحيلة والخداع وأصناف ذلك ، وهذه هي الأصول الأربعة ، وما عدا ذلك فروع تتشعب منها فتأمل (وإذا ظهر ذلك ولم تسمح نفسه بترك الدين رأسا تمسك من الدين بما فيه الرياسة ، وغلب عليه الغرور ، فلهذا وجب علينا بعد تقديم هذين الكتابين) أعني شرح عجائب القلب ورياضة النفس (أن نستكمل ربع المهلكات بثمانية كتب) فيكون المجموع عشرة كتب ثم سردها فقال: (كتاب في كسر الشهوتين شهوة البطن وشهوة الفرج ، وكتاب في كسر الغضب والحقد والحسد ، وكتاب في كسر شره الكلام) أي: حدته وسورته (وكتاب في ذم الدنيا وتفصيل خدعها) وتلبيسات الشيطان فيها (وكتاب في ذم الرياء وحب الجاه ، وكتاب في كسر حب المال وذم البخل ، وكتاب في ذم الكبر والعجب ، وكتاب في مواقع الغرور بذكر هذه المهلكات وتعليم طرق المعالجة فيها يتم غرضنا من هذا الربع) الذي هو الثالث (إن شاء الله تعالى . فإن ما ذكرناه في الكتاب الأول) من هذه الكتب العشرة (هو شرح لصفات القلب الذي هو معدن المهلكات والمنجيات ، وما ذكرناه في الكتاب الثاني) الذي بعده (هو إشارة كلية إلى تهذيب طريق الأخلاق ومعالجة أمراض القلوب ، أما تفصيلها فإنما يأتي في هذه الكتب إن شاء الله تعالى) .

وهذا آخر كتاب رياضة النفس وتهذيب الأخلاق ، وقد عن لي أن أختمه بفوائد نافعة تتعلق بآداب المريدين مما اقتطفتها من كتب القوم وجعلتها في فصول هي مهمة ولهذا الكتاب تتمة .



(فصل)

إذا أحكم بينه وبين الله عقده ، فيجب أن يحصل من علم الشريعة إما بالتحقيق وإما بالسؤال من الأئمة ما يؤدي به فرضه ، وإن اختلفت عليه فتاوى الفقهاء يأخذ بالأحوط ويقصد أبدا الخروج عن الخلاف ، وهل يجوز له تقليد المفضول؟ فقيل : نعم ، ورجحه ابن الحاجب وقيل: لا ، والمختار عند التاج السبكي جوازه لمن اعتقده أفضل من غيره أو مساويا له ، بخلاف من اعتقده مفضولا، ولا يتبع الرخص في المذاهب بأن يأخذ من كل منها ما هو الأسهل فيما يقع من المسائل ، فإن الرخص في الشريعة للمستضعفين وأصحاب الحوائج والأشغال ، وهذه الطائفة ليس لهم شغل سوى القيام بحقه سبحانه ، ولهذا قيل: إذا انحط الفقير عن درجة الحقيقة إلى رخصة الشريعة فقد فسخ عقده مع الله ، ونقض عهده فيما بينه وبين الله ، فالمحمود ملازمته من الأفضل ما يجد من نفسه القدرة على الدوام عليه ، وإن كان فيه بعض مشقة .



(فصل)

إذا وقعت للمريد مخالفة فيما أشار إليه شيخه فيجب عليه أن يقر له بما وقع له بين يديه ، ثم يستسلم لما يحكم عليه به شيخه عقوبة له على مخالفته وجنايته إما بسفر بكلفة أو أمر ما يراه صلاحا في حقه ووظيفته معه

[ ص: 380 ] كالعليل مع الطبيب لا يخرج عما يأمره به من الأدوية والأغذية والحمية ، ولا ينبغي للشيوخ التجاوز عن زلات المريدين ؛ لأن ذلك تضييع لحقوق الله المطلوبة من الطرفين .



(فصل)

إذا شهد قلب الشيخ للمريد بصحة العزم فيشترط عليه أن يرضى بما يستقبله في هذه الطريقة من فنون تصاريف القضاء ، فيأخذ عليه العهد بأن لا ينصرف عن هذه الطريقة بما يستقبله من الضرر والذل والفقر والأسقام والآلام ، وأن لا يجنح بقلبه إلى السهولة ، وأن لا يترخص عند هجوم الفاقات وحصول الضرورات ، وأن لا يؤثر الدعة ، وأن لا يستشعر الكسل .



(فصل)

يأمر الشيخ المريد أن يكون أبدا في الظاهر على الطهارة وأن لا يكون نومه إلا غلبة ، وأن يقلل من غذائه بالتدريج شيئا بعد شيء حتى يقوى على ذلك ، ولا يأمره أن يترك عادته بمرة ، فإن ذلك يغير مزاجه وأحواله ، ففي الخبر: إن المنبت لا أرضا قطع ولا ظهرا أبقى .



(فصل)

لا يذكر المريد لشيخه كل ما يهجس في خاطره، بل يزيله باستدامة الذكر على بساط الصدق أو المراقبة ، فإن لم يندفع به المرة بعد المرة عرض ذلك على شيخه في محل خلوته ، وما يقع لكثير من المنتسبين لهذه العصابة من شكاية الخواطر بمعنى ذكر الإنسان شيخه جميع ما يرد عليه ، وما يخطر في نفسه من أي شيء كان ، فهذا أمر ما عهد عند أئمة هذا الشأن بل ربما يكون هذا باعثا لإبليس على الولع بالقلب ووازعا بغير الباطن ويهيئه للخواطر فيعود ذلك بنقيض المقصود .



(فصل)

ومن آداب المريد بل من حاله أن يلازم موضع إرادته وهو الخلوة ، وأن لا يسافر قبل أن يقبل الطريق وقبل الوصول بالقلب إلى الرب سبحانه ، فإن السفر للمريد في غير وقته سم قاتل ، ولا يصل أحد منهم إلى ما كان يرجى له إذا سافر في غير وقته لأنه إذا سافر بغير إذنه فظاهر وإن سافر بإذنه دل على أنه عنده لم يصلح لهذا الشأن ، وقد امتحنه فلم يره أهلا لما رغب فيه فأعرض عنه وتركه ، نعم إن تمكن في حاله وصار يأنس بربه في خلوته كان سفره زيادة في تحقيق أحواله بكل حال لما في بعده عن الأوطان حينئذ من التوكل والرضا بما يجريه الله تعالى .



(فصل)

إذا أراد الله بمريد خيرا ثبته وقواه في أول إرادته ، وإذا أراد به شرا رده إلى ما خرج منه من حرفته أو حالته ، وإذا أراد الله بمريد محنة وابتلاء شرده في مطارح غربته ، هذا إذا كان المريد يصلح للوصول ، فأما إذا كان شابا طريقته الخدمة في الظاهر بالنفس للفقراء وزيارة الصالحين والاقتداء بأعمالهم وهو أدونهم في هذه الطريقة رتبة فهو وأمثاله يكتفون بالترسم في الظاهر ، فينقطعون في الأسفار وغاية نصيبهم في هذه الطريقة حجب يحصلونها وزيارات لمواضع يرتحلون إليها ولقاء الشيوخ بظاهر سلام فيشاهدون الظواهر ويكتفون بما في هذا الباب من السير فهؤلاء الواجب عليهم دوام السفر حتى لا تؤديهم الدعة إلى ارتكاب محظور ، فإن الشاب إذا وجد الراحة والدعة تعرض للفتنة بميل نفسه إلى الشهوات .



(فصل)

إذا توسط المريد جمع الفقراء والأصحاب في بدايته فهو مضر له جدا ، فإن امتحن بذلك بأن دعته الضرورة للخلطة فليكن سبيله احترام الشيوخ والخدمة للأصحاب والقيام بما فيه راحة فقير، والجهد في أن لا يستوحش منه قلب شيخ ، ويجب أن يكون في صحبته مع الفقراء أبدا خصمهم على نفسه ، ولا يكون خصم نفسه عليهم ، فيقبل عذرهم ولا يقبل عذر نفسه ، لما يعرف من سوء أدبه ، وأن يرى لكل واحد عليه حقا واجبا ولا يرى لنفسه واجبا ولا مندوبا على أحد لئلا يطلب المكافأة عليه ، وأن لا يخالف أحدا، وإن علم أن الحق معه يسكت لئلا يخجل من بحث معه ويظهر الوفاق لكل أحد فيما يجوز فيه الوفاق ، وكل مريد يكون فيه ضحك ولجاج ومماراة ، فإنه لا يجيء منه شيء ، وإذا كان في جمع من الفقراء إما في سفر أو حضر ، فينبغي أن لا يخالفهم في الظاهر لا في أكل ولا شرب ولا صوم ولا سكون ولا حركة، بل يخالفهم بسره وقلبه فيحفظ قلبه مع الله تعالى ، وإذا أشير إليه بالأكل مثلا يأكل لقمة أو لقمتين ولا يعطي النفس شهوتها .





[ ص: 381 ] (فصل)

رأس مال المريد الاحتمال عن كل أحد بطيبة النفس وتلقي ما يستقبله بالرضا والصبر على الضر والفقر ، وترك السؤال والمعارضة في القليل والكثير فيما هو حظ له ، ومن لم يصبر على ذلك فليدخل السوق ، فإن من اشتهى ما يشتهيه الناس فالواجب أن يحصل شهوته من حيث يحصلها الناس من كد اليمين وعرق الجبين .



(فصل)

إذا التزم مريد استدامة الذكر وآثر الخلوة ، فإن وجد في خلوته ما لم يجده في قلبه إما في النوم أو في اليقظة أو بينهما من خطاب يسمعه أو معنى يشاهده مما يكون نقضا للعادة ، فينبغي أن لا يشتغل بذلك البتة ولا يسكن إليه ولا ينبغي له أن ينظر حصول أمثال ذلك ، فإن هذه كلها شواغل عن الحق سبحانه ، ولا بد له في هذه الأحوال من وصف ذلك لشيخه إن لم يندفع بالذكر حتى يصير قلبه فارغا من ذلك ، ويجب على شيخه أن يحفظ عليه سره ، ويكتم عن غيره أمره ، ويصغر ذلك في عينه ، ويأمره بالإعراض عنه ، فإن ذلك كله اختبارات له، والمساكنة إليها مكر فليحذر المريد عن ذلك وعن ملاحظتها وليجعل همته فوق ذلك .



(فصل)

ومن أحكام المريد إذا لم يجد من يتأدب به في موضعه أن يهاجر إلى من هو منصوب في وقته لإرشاد المريد ثم يقيم عليه ولا يبرح سدته إلى وقت الإذن .



(فصل)

تقديم معرفة رب البيت على زيارة البيت واجب ، فلولا معرفة رب البيت ما وجبت زيارة البيت ، وأما الشباب الذين يخرجون إلى الحج من هؤلاء من غير إشارة الشيوخ ، فإنما هي بدلالات نشاط النفس فهم مترسمون بهذه الطريقة وليس سفرهم مبينا على أصل ، والذي يدل على ذلك أنه لا يزداد سفرهم بهذا الوجه إلا وتزداد تفرقة قلوبهم ، ولو أنهم ارتحلوا من عند أنفسهم بخطوة لكان أحظى من ألف سفرة .



(فصل)

من شرط المريد إذا زار شيخا أن يدخل إليه بالحرمة والأدب وينظر إليه بالحشمة ، فإن أهله الشيخ لشيء من الخدمة عد ذلك من جزيل النعمة فليغتنمه ، فإنه أتاه على وجه الفتح من الله تعالى .



(فصل)

ولا ينبغي للمريد أن يعتقد في المشايخ العصمة ، وإن كانوا محفوظين؛ لأن ذلك يخالف الواقع ، ولأنه يؤدي إلى نفرته منهم وعدم انتفاعه بهم إذا صدر منهم الذنب ، والفرق بين العصمة والحفظ أن العصمة تمنع من جواز وقوع الذنب ، والحفظ لا يمنع منه ، لكن الله تعالى يحفظ من يشاء ويترك من يشاء ، لأن الأولياء لا يقدح زللهم في قواعد الدين بخلاف الأنبياء ، فإن المعجزة دلت على عصمتهم فيما يخبرون به عن الله تعالى ، وفيما يفعلونه بيانا للتكاليف ، بل الواجب عليه أن يذرهم وأحوالهم ليحسن بهم الظن فيما يراه حقا ، ويمسك عما يراه خطأ ، فإن أراد أن يزيله من صدره فليسألهم عنه وليورده على وجه السؤال لا على وجه الاعتراض ، وكذا إذا أجابوه بجواب لا يسمعه ، فإما سلم له وهو الأسلم، وإما سأل قائلا: أحب التصدق علي بيبانه وهو مطمئن القلب سالم من أدنى تردد ما لم يكن ذلك في مبادئ إرادته ، فلا يسوغ له أدبا أن يسأل لا بإشارة ولا غيرها، بل يكون على أعدل الاستسلام ويراعي مع الله حده فيما يتوجه عليه من الأمر والنهي والعلم بأحكام الله كافية في التفرقة بين ما هو محمود وما هو معلول .



(فصل)

وكل مريد في قلبه شيء من عروض الدنيا له مقدار وخطر فاسم الإرادة له مجاز ، وإذا بقي في قلبه اختيار فيما يخرج عنه من معلومه الدنيوي فيريد أن يخص به نوعا من أنواع البر أو شخصا دون شخص فهو متكلف في حاله ، وبالخطر أن يعود إلى الدنيا لأن قصد المريد في خوف الخروج منها لا السعي في أعمال البر ، وقبيح بالمريد أن يخرج من معلومه من رأس ماله وقنيته ، ثم يكون أسير حرفة ، وينبغي أن يستوي عنده وجود ذلك وعدمه ، حتى لا ينافر لأجله فقيرا ولا يضايق به أحدا ، ويكون الأولى به تعود الصبر حتى يكون فقره وصبره رأس ماله فيكون كما قيل:


إذا افتقروا عضوا على الفقر ضنة * وإن أيسروا عادوا سراعا إلى الفقر





(فصل)

قبول قلوب المشايخ للمريد أصدق شاهد لسعادته ، ومن رده قلب شيخ فلا محالة أنه يرى غب [ ص: 382 ] ذلك ولو بعد حين، ومن خزل بترك حرمة الشيوخ فقد أظهر رقم شقاوته، وذلك لا يخطئ .



(فصل) ومن أصعب الآفات في هذه الطريقة صحبة الأحداث ، ومن ابتلاه الله بشيء من ذلك، فبإجماع الشيوخ ذلك عبد أهانه الله وخذله، بل عن نفسه شغله، ولو بألف ألف كرامة أهله، فليحذر المريد من مجالستهم، فإن من اليسير منه فتح باب الخذلان وبدو حال الهجران .



(فصل)

ومن آفات المريد ما يتداخل النفس من خفي الحسد للإخوان ، والتأثر مما يعود الله به أشكاله من هذه الطريقة، وحرمانه إياه ذلك؛ وليعلم أن الأمور قسم، وإنما يتخلص العبد عن هذا باكتفائه بوجود الحق، وقد نبه عن مقتضى جوده ونعمه، فكل من رأيت أيها المريد قدم الحق سبحانه رتبته فاحمل أنت غاشيته، فإن الظرفاء من القاصدين على ذلك استمرت سنتهم .



(فصل)

من حق المريد إذا اتفق وقوعه في جمع إيثار الكل بالكل فيقدم الشبعان الجائع على نفسه، ويتلمذ لكل من أظهر عليه التشيخ، وإن كان هو أعلم منه، ولا يصل إلى ذلك إلا بتبريه عن حوله وقوته، وتوصله إلى ذلك بطول الحق ومنته .



(فصل)

من تبرك بمريد فقد جار عليه; لأنه يضره لقلة قوته، فالواجب على المريد ترك تربية الجاه عند من قال بتركه وإثباته .



(فصل)

إن ابتلي المريد بجاه أو بعلوم أو صحبة حدث، أو ميل إلى امرأة، أو سكون إلى معلوم ، وليس هناك شيخ يدله على حيلة يتخلص بها من ذلك، فعند ذلك حل له السفر والتحول عن ذلك الموضع; لئلا يشوش على نفسه تلك الحالة، ولا شيء أضر على قلوب المريدين من حصول الجاه لهم قبل خمود بشريتهم .



(فصل)

ومن آداب المريد ألا يسبق علمه في هذه الطريقة منازلته بألا يتكلم في المقامات العالية بمحض العلم حتى يبلغها ؛ فإنه إذا تعلم سير هذه الطريقة وتكلف الوقوف على معرفة مسائلهم وأحوالهم قبل تحققه بها بالمنازلة والمعاملة بعد وصوله إلى هذه المعاني، ولهذا قالوا: إذا حدث العارف في معارف فجهلوه؛ فإن الإخبار عن المنازل دون المعارف، ومن غلب علمه منازلته فهو صاحب علم، لا صاحب سلوك .



(فصل)

ومن آداب المريدين ألا يتعرضوا للتصدر للتعليم والتدريس ، وأن يكون لهم مريد أو تلميذ، فإن المريد إذا صار مرادا قبل خمود بشريته وسقوط آفته فهو محجوب عن الحقيقة، لا تنفع أحدا إشارته ولا تعليمه .



(فصل)

إذا خدم المريد الفقراء فخواطر الفقراء رسلهم إليه ، فلا ينبغي أن يخالف المريد ما حكم به باطنه عليه من الخلوص في الخدمة وبذل الوسع والطاقة .



(فصل)

من شأن المريد إذا كانت طريقته خدمة الفقراء الصبر على جفاء القوم معه ، وأن يعتقد أنه يبذل روحه في خدمتهم، ثم لا يحمدون له أثرا، فيعتذر إليهم من تقصيره ويقر بالجناية على نفسه؛ تطييبا لقلوبهم، وإن علم أنه بريء الساحة .



(فصل)

من شأن المريد دوام المجاهدة في ترك الشهوات ، فإن من وافق شهوته عدم صفوته، وأقبح الخصال بالمريد رجوعه إلى شهوة تركها لله تعالى .



(فصل)

من شأن المريد حفظ عهوده مع الله تعالى ، فإن نقض العهد في طريق الإرادة كالردة عن الدين لأهل الظاهر، ولا يعاهد الله تعالى على شيء باختياره ما أمكنه؛ فإن في لوازم الشرع ما يستوفي منه كل وسع .



(فصل)

من شأن المريد قصر الأمل ، فإن الفقير ابن وقته، فإذا كان له تدبير في المستقبل وتطلع لغير ما هو فيه من الوقت وأمل فيما يستأنفه لا يجيء منه شيء .



(فصل)

ومن شأن المريد ألا يكون له معلوم وإن قل ، لاسيما إذا كان بين الفقراء؛ فإن ظلمة المعلوم تطفئ نور الوقت .



(فصل)

ومن شأن المريد التباعد عن أبناء الدنيا ؛ فإن صحبتهم سم مجرب لا ينتفعون به، وهو ينقص بهم. [ ص: 383 ] قال الله تعالى: ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا ، الآية، وإن الزهاد يخرجون المال من الكيس تقربا إلى الله تعالى، وأهل الصفا يخرجون الخلق والمعارف من القلب تحققا بالله عز وجل .



(فصل)

ومن آداب المريد مع شيخه اعتقاده أنه لا أكمل منه، من حيث علمه في البشر بزمانه، وحفظ حرمته حسب الإمكان ، فلا يجهر له بالقول كجهر الإنسان لصاحبه، ولا يرفع صوته على صوته، وعدم محادثة من يجانبه في حضرته إلا في أمر يلزم به الشرع، بل يكون موجه الفكر والظاهر لما يرد في حضرته، وألا يضحك في حضرته إلا تبسما من مقتض، وألا يكون في مجالسته له إلا على طهارة، وعدم مسابقته قوله، إلا أن ينتهي في كلامه، وأن يكون جلوسه بين يديه كهيئة المتشهد في الصلاة، كأن على رأسه الطير، غاض الطرف، يسارق وجهه النظر، وألا يخاصم أحدا من أتباعه؛ احتراما لحق الشيخ، وأن يراعي منصبه في حرمه وآل بيته، وأن يراعيه في غيبته كمراعاته في الحضور في جميع الأحوال والأقوال والأفعال، وأن يحفظ متعلقاته عن الجراءة عليها، فلا يلبس ثوبه ولا نعله ولا يركب دابته، ولا يجلس على سجادته، ولا يشرب من الإناء الذي أعد له، ونحو ذلك، وإنما يحاسب نفسه على ما فتح له من صحبته، فإن وجد تأخرا نسب التقصير إلى نفسه، وأن يكون أحب إليه من ولده ووالده وماله والناس أجمعين .



(فصل)

قال الشيخ الأكبر -قدس سره- في التدبيرات الإلهية في المملكة الإنسانية: ينبغي للمريد ألا يكثر الحركة؛ فإنها تفرقة ، ولهذا منعناه من السفر إلا في طلب شيخ يرشده، فإذا خرج إلى المساجد أو إلى ضرورة، فلا يلتفت يمينا ولا شمالا، وليجعل بصره حيث يجعل قدميه؛ مخافة النظرة الأولى، ويكون مشتغلا بالذكر في مشيه، ويرد السلام على من يسلم عليه، ولا يقف مع أحد، ولا يقل لأحد: كيف حالك؟ وليحذر من هذا؛ فإنه صعب عندنا، ويزيل من طريقه كل ما يجده من أذى من حجر أو شوك أو عذرة، ولا يجد رقعة في الأرض إلا يرفعها في كوة، ولا يتركها تدنس بالأرجل، ويرشد الضال، ويعين الضعيف، ويحمل عنه الثقل، هذا كله واجب عليه، وإياك والسعي في مشيك، ولكن بالتأني من غير عجب، فإنه أوفر لهمتك، فإذا كنت حاملا شيئا فأردت الراحة فتعدل عن طريق الناس، ولا تضيق عليهم، وإياك وحضور مجالس السماع؛ فإن أشار عليك شيخك بحضورها فاحضر معهم، ولا تسمع، واشتغل بالذكر؛ فإن سماعك من ذكرك أولى من سماعك من الشعر، ولاسيما والقوال قلما ينشد إلا في باب المحبة والشوق، والنفس تهتز عند ذلك، وتورث الدعوى عندك، فإن أنشد القوال في الموت وما يردك إلى الخوف والقبض والحزن والبكاء في ذكر جهنم، أو ذهاب العمر، أو الموت وكرباته، والحساب والقصاص، ومواقف القيامة، فأصغ إلى ذلك فيما جاء، فإن عليك حالا يغنيك عن إحساسك، وإذا قمت فليس قيامك لك، وإنما أقامك واردك، فمتى ما رجعت عنه إلى إحساسك فاقعد من حينك، وارجع إلى هيئة اعتدالك، فإن الحركة في السماع انحراف عن مجرى الاعتدال، وتتنوع بحسب القصد، وإن اضطررت إلى الصحبة ولابد، فصاحب العابد والمجتهدين من أهل المعاملة حتى تجد الشيخ، فإن لم تجدهم في المدن فاطلبهم بالسواحل والمساجد الخربة -فإنهم يطرقونها- وقنن الجبال وبطون الأودية، وإذا عزمت على أن تكون منهم، فإياك أن يدخل عليك وقت الصلاة إلا وأنت في المسجد، والمفرط من المريدين من يصلي والصلاة تقام، فإن جئت المسجد والصلاة تقام فقد فرطت غاية التفريط، ولست منهم، وأما أن تفوتك تكبيرة الإحرام أو ركعة مع الإمام فلا يتكلم على هذا، فإن هذا من حكم العامة، فتب إلى الله تعالى واستأنف، وإياك وملازمة مسجد واحد، ولا صف واحد، ولا موضع واحد في المسجد، وبهذا ختمت شرح هذا الكتاب بحمد الله تعالى وحسن توفيقه، وأسأله الإعانة على إتمام ما بقي منه، كان ذلك على يد مسوده أبي الفيض محمد مرتضى الحسيني ، لطف الله به بعد العشاء، من ليلة الأحد ثالث محرم الحرام، افتتاح سنة 1200 أرانا الله خيرها وكفانا ضرها، حامدا لله مصليا مسلما .




الخدمات العلمية