الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
والباعث على الفحش إما قصد الإيذاء وإما الاعتياد الحاصل من مخالطة الفساق وأهل الخبث واللؤم ، ومن عادتهم السب وقال أعرابي لرسول الله صلى الله عليه وسلم : أوصني . فقال : عليك بتقوى الله ، وإن امرؤ عيرك بشيء يعلمه فيك ، فلا تعيره بشيء فيه ، يكن وباله عليه وأجره لك ، ولا تسبن شيئا ، قال فما سببت شيئا بعده .

وقال عياض بن حمار قلت : يا رسول الله ، إن الرجل من قومي يسبني وهو دوني هل علي من بأس أن أنتصر منه فقال المستابان شيطانان يتعاويان ويتهارجان .

وقال صلى الله عليه وسلم: سباب المؤمن فسوق وقتاله كفر وقال صلى الله عليه وسلم : المستبان ما قالا فعلى البادئ منهما حتى يعتدي المظلوم .

وقال صلى الله عليه وسلم : : ملعون من سب والديه وفي رواية : " من أكبر الكبائر أن يسب الرجل .

والديه . قالوا : يا رسول الله ، كيف يسب الرجل والديه ؟ قال : يسب أبا الرجل ، فيسب الآخر أباه
.

التالي السابق


( والباعث على الفحش إما قصد الإيذاء للمخاطب) ، وأكثر ما يوجد ذلك في المخاصمات، (وإما الاعتياد الحاصل من مخالطة الفساق) ، ومجالستهم، (و) مصاحبة (أهل الخبث) والدعارة، (واللؤم، ومن عادتهم السب) والطعن على أعراض المسلمين. (وقال أعرابي لرسول الله صلى الله عليه وسلم: أوصني. فقال: عليك بتقوى الله، وإن امرؤ عيرك) أي: عابك، (بشيء يعلمه فيك، فلا تعيره بشيء تعلمه) أنت (فيه، يكن وباله عليك وأجره لك، ولا تسبن شيئا، قال) الأعرابي: (فما سببت شيئا بعده) قال العراقي : رواه أحمد والطبراني بإسناد جيد من حديث أبي جري الهجيمي قيل: اسمه جابر بن سليم ، وقيل: سليم بن جابر . اهـ. قلت: هو صحابي مشهور، وروى عنه عقيل بن طلحة وأبو تميمة ، وعند أبي داود والبيهقي من حديث جابر بن سليم ، وهو أبو جري الهجيمي : "لا تسبن أحدا ولا تحقرن من المعروف شيئا، ولو أن تكلم أخاك وأنت منبسط إليه وجهك، إن ذلك من المعروف، وارفع إزارك إلى نصف الساق، فإن أبيت فإلى الكعبين، وإياك وإسبال الإزار، فإنها من المخيلة، وإن الله لا يحب المخيلة، وإن امرؤ شتمك وعيرك بما يعلم فيك، فلا تعيره بما تعلم فيه؛ فإنما وبال ذلك عليه" . ورواه أحمد نحوه، ولكن قال: عن رجل من الصحابة، ولم يسمه، ولفظه: "لا تسبن شيئا، ولا تزهدن في المعروف ولو ببسط وجهك إلى أخيك وأنت تكلمه، وأفرغ من دلوك في إناء المستقي، واتزر إلى نصف الساق، فإن أبيت فإلى الكعبين، وإياك وإسبال الإزار، فإنها من المخيلة" .

(وقال عياض بن حمار ) بلفظ الحيوان المعروف، ابن أبي حمار بن ناجية بن عقال بن محمد بن سفيان بن مجاشع بن دارم بن مالك بن حنظلة بن مالك بن زيد مناة المجاشعي التميمي ، نسبه خليفة بن خياط ، عداده في أهل البصرة ، وله صحبة، روى له مسلم حديثا واحدا، والباقون، إلا البخاري ؛ فإنه لم يرو له في الصحيح، ولكن روى له في الأدب المفرد، (قلت: يا رسول الله، إن الرجل من قومي يسبني وهو دوني) ، أي: في الحسب والشرف، (هل علي من بأس أن أنتصر منه) بأن أسبه كما سبني، (فقال) صلى الله عليه وسلم: (المستبان) أي: الذي يسب كل منهما الآخر، (شيطانان) أي: بمنزلتهما، (يتعاونان) ، كذا في النسخ، والذي في الرواية: يتكاذبان، (ويتهاتران) أي: كل منهما يكذب صاحبه وينتقصه، من الهتر، بالكسر، وهو الباطل من القول، والسقط من الكلام، وعلى رواية: يتعاونان، أي: يتقاويان ويتقابحان في القول، وفيه كما قال المصنف فيما سيأتي: إنه لا يجوز مقابلة السب بالسب . قال: وكذا سائر المعاصي، وإنما القصاص والغرامة على ما ورد به الشرع، قال: وقال قوم: يجوز المقابلة بما لا كذب فيه، ونهيه عن التعيير بمثله نهي تنزيه، والأفضل تركه، لكنه [ ص: 483 ] لا يعصي، قال العراقي : رواه أبو داود والطيالسي ، وأصله عند أحمد . اهـ .

قلت: ورواه أحمد والبخاري في الأدب المفرد، قال الهيثمي : رجال أحمد رجال الصحيح .

(وقال صلى الله عليه وسلم: المستبان ما قالا) أي: إثم ما قالاه من السب والشتم، (فعلى البادئ) منهما; لأنه السبب لتلك المخاصمة، فللمسبوب أن ينتصر ويسبه بما ليس بقذف ولا كذب، كيا ظالم، ولا يأثم، والعفو أفضل، فإن قيل: إذا لم يأثم المسبوب وبرئ البادئ من ظلمه بوقوع التقاص، فكيف صح أن يقدر فيه إثم ما قالا؟ قلنا: إضافته بمعنى "في"، يعني: إثم كائن فيما قالاه، وإثم الابتداء على البادئ، ويستمر هذا الحكم، (حتى يعتدي المظلوم) أي: يتعدى الحد في السب، فلا يكون الإثم على البادئ فقط، بل عليهما، وقيل: المراد أنه يحصل إثم ما قالا، وللبادئ أكثر من المظلوم حتى يعتدي فيربو إثم المظلوم، وقيل: معناه أنه إذا سبه فرد عليه كان كفافا، فإن زاد بالغضب والتعصب لنفسه كان ظالما، وكان كل منهما فاسقا. قال العراقي : رواه مسلم من حديث أبي هريرة ، وقال: "ما لم يعتد المظلوم" . اهـ. قلت: وكذا الترمذي ، روياه من طريق العلاء بن عبد الرحمن ، عن أبيه، عن أبي هريرة ، ورواه أيضا أحمد ، وأبو داود بلفظ المصنف، وفي الباب عن أنس وابن مسعود ، وعبد الله بن الفضل وغيرهم .

(وقال صلى الله عليه وسلم: سباب) بكسر السين وتخفيف الموحدة، (المسلم) أي: سبه وشتمه، يعني التكلم في عرضه بما يعيبه، وهو مضاف إلى مفعول، (فسوق) أي: خروج عن طاعة الله ورسوله، ولفظه يقتضي كونه من اثنين; لأنه مصدر "سابه مسابة"، وفسر الراغب السباب بالشتم الوجيع. قال النووي : فيحرم سب المسلم بغير سبب شرعي. قال: ومن الألفاظ المذمومة المستعملة عادة قوله لمن يخاصمه: يا حمار، يا كلب، ونحو ذلك، فهذا قبيح; لأنه كذب وإيذاء، بخلاف قوله: يا ظالم، ونحوه؛ فإن ذلك مما يتسامح به لضرورة المخاصمة، مع أنه صدق غالبا، فما من إنسان إلا وهو ظالم لنفسه ولغيرها، وفيه تعظيم حق المسلم، والحكم على من سبه بالفسق، وإن الإيمان ينقص ويزيد; لأن الساب إذا فسق نقص إيمانه، وخرج عن الطاعة، فضره ذنبه، وفيه رد على المرجئة في قولهم: إنه لا يضر مع التوحيد ذنب. (وقتاله) أي: بمحاربته لأجل الإسلام (كفر) ، حقيقة، أو ذكره للتهديد وتعظيم الوعيد، أو المراد الكفر اللغوي، وهو الجحد لحقه، أو هضم أخوة الإيمان، رواه أحمد والشيخان في الإيمان، والترمذي في البر، والنسائي في المحاربة، وابن ماجه من حديث ابن مسعود ، ورواه ابن ماجه أيضا، وأبو نعيم في الحلية، والخرائطي في مساوئ الأخلاق من حديث أبي هريرة ، ورواه الدارقطني في الأفراد من حديث جابر ، ورواه ابن ماجه أيضا من حديث سعد بن أبي وقاص ، ورواه الطبراني في الكبير من حديث عبد الله بن مغفل ، وفيه كثير بن يحيى ، وهو ضعيف، ورواه ابن أبي الدنيا في ذم الغضب، والطبراني أيضا من حديث عمرو بن النعمان بن مقرن ، ورواه أحمد والطبراني أيضا من حديث ابن مسعود بزيادة: "وحرمة ماله كحرمة دمه" ، وقال الحافظ في الفتح: لما كان المقام مقام الرد على المرجئة، أورد البخاري هذا الحديث في كتاب الإيمان، واهتم بذلك وبالغ في الزجر، معرضا عما يقتضيه ظاهره من تقوية مذهب الخوارج المكفرين بالذنب؛ اعتمادا على ما تقرر من دفعه في محله. اهـ .

(وقال صلى الله عليه وسلم: ملعون من سب والديه ) ، قال القرطبي : إنما استحق ساب والديه اللعن لمقابلته نعمة الأبوين بالكفران، وانتهائه إلى غاية العقوق والعصيان، كيف وقد قرن الله برهما بعبادته، وإن كانا كافرين بتوحيده وشريعته، قال العراقي : رواه أحمد ، وأبو يعلى ، والطبراني من حديث ابن عباس بإسناد جيد. اهـ .

قلت: ولفظ أحمد : "ملعون من سب أباه، ملعون من سب أمه" ، الحديث، وهكذا رواه أبو نعيم في الحلية، ولفظ الطبراني : "ملعون من سب شيئا من والديه" ، الحديث .

وروى الخرائطي في مساوئ الأخلاق من حديث أبي هريرة : "ملعون من لعن والديه" ، (وفي رواية: "من أكبر الكبائر أن يسب الرجل والديه. قالوا: يا رسول الله، كيف يسب الرجل والديه؟ قال: يسب أبا الرجل، فيسب الآخر أباه" ) قال العراقي : رواه الشيخان من حديث عبد الله بن عمرو . اهـ .

قلت: وكذلك رواه الترمذي ، ولفظهم: "من الكبائر شتم الرجل والديه. وقيل: يا رسول الله، وهل يشتم الرجل والديه؟ قال: نعم، يسب أبا الرجل، فيسب أباه [ ص: 484 ] ويسب أمه، فيسب أمه .




الخدمات العلمية