الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
فإن قلت : فهذا الفضل الكبير للصمت ما سببه ؟ فاعلم أن سببه كثرة آفات اللسان من الخطأ والكذب والغيبة والنميمة ، والرياء والنفاق ، والفحش والمراء ، وتزكية النفس والخوض في الباطل ، والخصومة والفضول ، والتحريف والزيادة والنقصان ، وإيذاء الخلق ، وهتك العورات .

فهذه آفات كثيرة ، وهي صيانة إلى اللسان ، لا تثقل عليه ولها حلاوة في القلب ، وعليها بواعث من الطبع ، ومن الشيطان والخائض فيها قلما يقدر أن يمسك اللسان فيطلقه بما يحب ، ويكفه عما لا يحب فإن ذلك من غوامض العلم كما سيأتي تفصيله ففي الخوض خطر وفي الصمت سلامة فلذلك عظمت فضيلته هذا مع ما فيه من جمع الهم ودوام الوقار والفراغ للفكر والذكر ، والعبادة والسلامة من تبعات القول في الدنيا ، ومن حسابه في الآخرة ، فقد قال الله تعالى : ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد .

ويدلك على فضل لزوم الصمت أمر ، وهو أن الكلام أربعة أقسام : قسم هو ضرر محض ، وقسم هو نفع محض ، وقسم فيه ضرر ومنفعة ، وقسم ليس فيه ضرر ولا منفعة .

أما الذي هو ضرر محض فلا بد من السكوت عنه ، وكذلك ما فيه ضرر ومنفعة ; لا تفي بالضرر .

وأما ما لا منفعة فيه ولا ضرر ، فهو فضول ، والاشتغال به تضييع زمان وهو عين الخسران ، فلا يبقى إلا القسم الرابع فقد سقط ثلاثة أرباع الكلام وبقي ربع ، وهذا الربع فيه خطر ، إذ يمتزج بما فيه إثم من دقائق الرياء والتصنع والغيبة ، وتزكية النفس وفضول الكلام امتزاجا يخفى دركه فيكون الإنسان به مخاطرا ومن عرف دقائق آفات اللسان على ما سنذكره علم قطعا أن ما ذكره صلى الله عليه وسلم هو فصل الخطاب حيث قال : من صمت نجا .

فلقد أوتي والله جواهر الحكم قطعا ، وجوامع الكلم ولا يعرف ما تحت آحاد كلماته من بحار المعاني إلا خواص العلماء .

التالي السابق


(فإن قلت: فهذا الفضل الكثير للصمت ما سببه؟ فاعلم أن سببه كثرة آفات اللسان من الخطأ والكذب والغيبة والنميمة، والرياء والنفاق، والفحش والمراء، وتزكية النفس والخوض في الباطل، والخصومة والفضول، والتحريف والزيادة والنقصان، وإيذاء الخلق، وهتك العورات) ، وغيرها، وهي نحو سبع عشرة آفة، (فهذه آفات كثيرة، وهي سياقة إلى اللسان، لا ينفك عنها) ، أي: عن مجموعها بالقوة في بعضها، والضعف في بعضها، (ولها حلاوة في القلب، وعليها بواعث من الطبع، ومن الشيطان) بإغراره وتسويله، فيقوى ما في الطبع حتى يصير متمكنا منه، (والخائض فيها قلما يقدر أن يمسك اللسان) ويزمه، (فيطلقه بما يحب، ويكفه عما لا يحب) ، فإن ذلك من غوامض العلم، كما سيأتي تفصيله، (ففي الخوض خطر) ، وهلاك، (وفي الصمت سلامة) من الهلاك، (فلذلك عظمت فضيلته) وفضل جانبه، (هذا مع ما فيه من جمع الهمم) من التشتت (ودوام الوقار) ، والهيبة بين الناس، (والفراغ للفكر والذكر، والعبادة والسلامة من تبعات القول في الدنيا، ومن حسابه في الآخرة، فقد قال تعالى: ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد ) ، أي: ما يتكلم بكلمة إلا وعنده مراقب حاضر مهيأ يكتب عليه ما يقوله .

وأخرج ابن أبي الدنيا في الصمت من طريق مجاهد : ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد ، قال: الملكان، وقال: إن الكلام ليكتب حتى إن الرجل ليسكت ابنه: أبتاع لك كذا وكذا، وأفعل لك كذا وكذا، فتكتب كذبته، (ويدلك على لزوم الصمت أمر، وهو أن الكلام أربعة أقسام : قسم هو ضرر محض، وقسم هو نفع محض، وقسم فيه ضرر ومنفعة، وقسم ليس فيه ضرر ولا منفعة، أما الذي هو ضرر محض فلابد من السكوت عنه، وكذلك ما فيه ضرر ومنفعة; لأن منفعته لا تفي بالضرر، وأما ما لا منفعة فيه ولا ضرر، فهو فضول، والاشتغال به تضييع زمان) ، والعمر جوهر نفيس، (وهو عين الخسران، فلا يبقى إلا القسم الرابع) ، وهو الذي فيه نفع محض، (فقد سقط ثلاثة أرباع الكلام) ; أخرجه ابن أبي الدنيا في الصمت، فقال: حدثنا علي بن أبي مريم ، عن خلف بن تميم ، حدثنا أبو إسحاق الفزاري قال: كان إبراهيم بن أدهم يطيل السكوت، فإذا تكلم ربما انبسط، فأطال ذات يوم السكوت، فقلت له: لو تكلمت. فقال: الكلام على أربعة وجوه، فمن الكلام كلام ترجو منفعته وتخشى عاقبته، فالفصل في هذا السلامة منه، ومن الكلام كلام لا ترجو منفعته ولا تخشى عاقبته، فأقل ما لك في تركه خفة المؤنة على [ ص: 459 ] بدنك ولسانك، ومن الكلام كلام لا ترجو منفعته، ولا تأمن عاقبته، فهذا قد كفى العاقل مؤنته، ومن الكلام كلام ترجو منفعته وتأمن عاقبته، فهذا الذي يجب عليك نشره. قال خلف: فقلت لأبي إسحاق إبراهيم: أراه قد أسقط ثلاثة أرباع الكلام. قال: نعم. اهـ. (وبقي ربع، وهذا الربع فيه خطر، إذ يمتزج به ما هو إثم) عند الله تعالى، وذلك (من دقائق الرياء والتصنع والغيبة، وتزكية النفس وفضول الكلام امتزاجا) لطيفا، (يخفى دركه) لأكثر الناس، (فيكون الإنسان مخاطرا) أي: مشرفا على خطر عظيم، (ومن عرف دقائق آفات اللسان على ما سنذكره علم قطعا أن ما ذكره صلى الله عليه وسلم هو فصل الخطاب) في بابه، (حيث قال: من صمت نجا ) ، وقد تقدم الكلام عليه قريبا، (فقد أوتي) صلى الله عليه وسلم (جواهر الحكم قطعا، وجوامع الكلم) ، كما رواه مسلم من حديث أبي هريرة ، وقد تقدم بلفظ: "أوتيت جوامع الكلم، واختصر لي الكلام اختصارا" . (ولا يعرف ما تحت آحاد كلماته من بحار المعاني إلا خواص العلماء) ; إذ هي ثمان أحرف، وقد جمع فيها خير الدنيا والآخرة، وهو أبلغ من قول القائل: من سكت سلم؛ لأن الصمت أبلغ من السكوت. كما تقدمت الإشارة إليه، والنجاة أبلغ من السلامة; لأن السلامة قد يقتصر إطلاقها على الخلاص من شر الناس، فهو خاص في الدنيا، والنجاة تعم الدنيا والآخرة، فكأنه قال: من صمت عما لا يعني وعن الفضول، سلم في نفسه من شر الناس، ومن شر الشيطان، ومن سلم منهما فقد نجا من تبعات الآخرة .




الخدمات العلمية