الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
وروى الحسن عن عائشة رضي الله تعالى عنها أنها قالت : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : أديموا قرع باب الجنة يفتح لكم فقلت كيف : نديم قرع باب الجنة ? قال : بالجوع والظمأ وروي أن أبا جحيفة تجشأ في مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له أقصر : من جشائك ، فإن أطول الناس جوعا يوم القيامة أكثرهم شبعا في الدنيا وكانت عائشة رضي الله عنها تقول أن : رسول الله صلى الله عليه وسلم لم تمتلئ قط شبعا ، وربما بكيت رحمة مما أرى به من الجوع ، فأمسح بطنه بيدي وأقول : نفسي لك الفداء ، لو تبلغت من الدنيا بقدر ما يقويك ويمنعك من الجوع ، فيقول : يا عائشة ، إخواني من أولي العزم من الرسل قد صبروا على ما هو أشد من هذا مضوا ، على حالهم ، فقدموا على ربهم ، فأكرم مآبهم وأجزل ثوابهم ، فأجدني أستحي إن ترفهت في معيشتي أن يقصر بي غدا دونهم ، فالصبر أياما يسيرة أحب إلي من أن ينقص حظي غدا في الآخرة ، وما من شيء أحب إلي من اللحوق بأصحابي وإخواني . قالت عائشة : فوالله ما استكمل بعد ذلك جمعة حتى قبضه الله إليه وعن أنس قال : جاءت فاطمة رضوان الله عليها بكسرة خبز إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : ما هذه الكسرة ? قالت : قرص خبزته ولم ، تطب نفسي حتى أتيتك منه بهذه الكسرة . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أما إنه أول طعام دخل فم أبيك منذ ثلاثة أيام وقال أبو هريرة ما أشبع النبي صلى الله عليه وسلم أهله ثلاثة أيام تباعا من خبز الحنطة حتى فارق الدنيا وقال صلى الله عليه وسلم : إن أهل الجوع في الدنيا هم أهل الشبع في الآخرة ، وإن أبغض الناس إلى الله المتخمون الملأى وما ترك عبد أكلة يشتهيها إلا كانت له درجة في الجنة .

وأما الآثار فقد قال عمر رضي الله عنه : إياكم والبطنة ؛ فإنها ثقل في الحياة ، نتن في الممات وقال شقيق البلخي العبادة حرفة ، حانوتها الخلوة ، وآلتها المجاعة وقال لقمان لابنه يا بني إذا امتلأت المعدة نامت الفكرة ، وخرست الحكمة ، وقعدت الأعضاء عن العبادة وكان الفضيل بن عياض يقول لنفسه أي شيء تخافين ? أتخافين أن تجوعي ? لا تخافي ذلك ، أنت أهون على الله من ذلك ، إنما يجوع محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه وكان كهمس يقول : إلهي .

أجعتني وأعريتني ، وفي ظلم الليالي بلا مصباح أجلستني ، فبأي وسيلة بلغتني ما بلغتني وكان فتح الموصلي إذا اشتد مرضه وجوعه يقول : إلهي ، ابتليتني بالمرض والجوع ، وكذلك تفعل بأوليائك ، فبأي عمل أؤدي شكر ما أنعمت به علي وقال مالك بن دينار قلت لمحمد بن واسع يا أبا عبد الله ، طوبى لمن كانت له غليلة تقوته وتغنيه عن الناس . فقال لي : يا أبا يحيى ، طوبى لمن أمسى وأصبح جائعا ، وهو عن الله راض وكان الفضيل بن عياض يقول : إلهي أجعتني وأجعت عيالي ، وتركتني في ظلم الليالي بلا مصباح ، وإنما تفعل ذلك بأوليائك ، فبأي منزلة نلت هذا منك ? وقال يحيى بن معاذ جوع الراغبين منبهة وجوع التائبين تجربة وجوع المجتهدين كرامة وجوع الصابرين سياسة ، وجوع الزاهدين حكمة وفي التوراة : اتق الله ، وإذا شبعت فاذكر الجياع . وقال أبو سليمان لأن أترك لقمة من عشائي أحب إلي من قيام ليلة إلى الصبح وقال أيضا الجوع عند الله في خزائنه ، لا يعطيه إلا من أحبه .

التالي السابق


(وروى) الحسن البصري (عن عائشة رضي الله عنها قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: أديموا قرع باب الجنة يفتح لكم. قلت: وكيف نديم قرع باب الجنة؟ قال: بالجوع والظمأ ) ، كذا في القوت، قال العراقي : لم أقف له على أصل، (وروي أن أبا جحيفة) وهب بن عبد الله السوائي رضي الله عنه توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو مراهق، (تجشأ في مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له: اقتصر من جشائك، فإن أطول الناس جوعا يوم القيامة أكثرهم شبعا في الدنيا ) . ولفظ القوت: وفي حديث أبي جحيفة : لما تجشأ عند رسول الله صلى الله عليه وسلم من ثريد ولحم قال: كنت أكلته، فقال له: اكفف عنا جشاءك، فإن أطولكم شبعا في الدنيا أكثركم جوعا في الآخرة. فقال: والله ما تملأت طعاما منذ يومئذ إلى يومي هذا، وأرجو أن يعصمني الله عز وجل فيما بقي ، اهـ. قال العراقي : رواه البيهقي في الشعب من حديث أبي جحيفة ، وأصله عند الترمذي وحسنه وابن ماجه ، من حديث ابن عمر ، تجشأ رجل.. الحديث، لم يذكر أبا جحيفة ، اهـ .

قلت: وأخرجه البزار أيضا من حديث أبي جحيفة بلفظ: "إن أكثر الناس شبعا في الدنيا أطولهم جوعا يوم القيامة" .

قال الحافظ ابن حجر : وسنده ضعيف، وحديث ابن عمر عند ابن ماجه في سنده مقال. (وكانت عائشة رضي الله عنها تقول: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم [ ص: 391 ] لم يمتلئ قط شبعا، وربما بكيت رحمة له مما أرى به من الجوع، فأمسح بطنه بيدي وأقول: نفسي لك الفداء، لو تبلغت من الدنيا بقدر ما يقوتك ويمنعك من الجوع، فيقول: يا عائشة ، إخواني من أولي العزم من الرسل قد صبروا على ما هو أشد من هذا، فمضوا على حالهم، فقدموا على ربهم، فأكرم مآبهم وأجزل ثوابهم، فأجدني أستحي إن ترفهت في معيشتي أن يقصر بي غدا دونهم، فالصبر أياما يسيرة أحب إلي من أن ينقص حظي غدا في الآخرة، وما من شيء أحب إلي من اللحوق بأصحابي وإخواني. قالت: فوالله ما استكمل بعد ذلك جمعة حتى قبضه الله إليه ) قال العراقي : لم أجده، قلت: وهو أشبه بمخاطبة عمر رضي الله عنه مع ابنته حفصة حين لامت عليه في خشونة العيش، أورده الذهبي في نعم السمر في سيرة عمر ، (وعن أنس ) رضي الله عنه (قال: جاءت فاطمة رضي الله عنها بكسرة خبز إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: ما هذه الكسرة؟ قالت: قرص خبزته، لم تطب نفسي حتى آتيك بهذه الكسرة. فقال: أما إنه أول طعام دخل فم أبيك منذ ثلاثة أيام ) قال العراقي : رواه الحارث بن أبي أسامة في مسنده بسند ضعيف. اهـ .

قلت: أخرجه القشيري في الرسالة، فقال: أخبرنا علي بن أحمد الأهوازي ، أخبرنا أحمد بن عبيد الصفار ، حدثنا عبد الله بن أيوب ، حدثنا أبو الوليد الطيالسي ، حدثنا أبو هاشم ، صاحب الزعفراني ، حدثنا محمد بن عبد الله عن أنس بن مالك أنه حدثه قال: جاءت فاطمة رضي الله عنها بكسرة خبز.. فساقه، قال: وفي بعض الروايات: "جاءت فاطمة بقرص شعير" . (وقال أبو هريرة ) رضي الله عنه: ( ما شبع رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثة أيام تباعا من خبز الحنطة حتى فارق الدنيا ) ، رواه مسلم ، وقد تقدم .

(وقال صلى الله عليه وسلم: إن أهل الجوع في الدنيا هم أهل الشبع في الآخرة ، وإن أبغض الناس إلى الله تعالى المتخمون الملأى) أي: الذين يملؤون بطونهم من الطعام حتى يتخمون، والتخمة فساد الطعام في المعدة، (وما ترك عبد أكلة يشتهيها إلا كانت له درجة في الجنة) ، قال العراقي : رواه الطبراني في الكبير، وأبو نعيم في الحلية من حديث ابن عباس بسند ضعيف اهـ .

قلت: لفظ الطبراني : "إن أهل الشبع في الدنيا هم أهل الجوع غدا في الآخرة" .

قال المنذري : إسناده حسن، وقال الهيثمي : فيه يحيى بن سليمان القرشي ، فيه مقال .

وأخرج ابن ماجه والحاكم من حديث سلمان بلفظ: "إن أكثر الناس شبعا في الدنيا أطولهم يوم القيامة جوعا" .

قال الحافظ ابن حجر : في سنده لين، وقد أخرجه ابن ماجه أيضا من حديث ابن عمر بنحوه، وقد تقدم عند ذكر أبي جحيفة ، وتقدم عن كعب : "إن الله يبغض أهل البيت اللحمين" .

أخرجه البيهقي في الشعب: وهم المكثرون في أكل اللحم حتى يتخموا، (وأما الآثار فقد قال عمر رضي الله عنه: إياكم والبطنة؛ فإنها ثقل في الحياة، نتن في الممات ) .

أخرجه أبو نعيم في كتاب الطب النبوي من طريق بشر الأعور ، قال: قال عمر بن الخطاب : "إياكم والبطنة في الطعام والشراب؛ فإنها مفسدة للجسد، مورثة للفشل، مكسلة عن الصلاة، وعليكم بالقصد فيهما؛ فإنه أصلح للجسد، وأبعد من السرف" ، وقد روي عن عمرو بن العاص وغيره من الصحابة: "البطنة تذهب بالفطنة" ، (وقال شقيق البلخي ) رحمه الله تعالى: (العبادة حرفة، حانوتها الخلوة، وآلتها المجاعة) ، يشير بذلك إلى أن الخلوة والجوع ركنان عظيمان لأساس العبادة ، ولا تتم إلا بهما، وفيهما سجن النفس وضيقها، ويتبع الخلوة الصمت، ويتبع الجوع السهر، فهي أركان أربعة، (وقال لقمان لابنه) وهو يعظه: (يا بني إذا امتلأت المعدة نامت الفكرة، وخرست الحكمة، وقعدت الأعضاء عن العبادة) ، أي: تكاسلت، (وكان الفضيل بن عياض ) رحمه الله تعالى (يقول) مخاطبا لنفسه: (أي شيء تخافين؟ أتخافين أن تجوعي؟ لا تخافي ذلك، أنت أهون على الله من ذلك، إنما يجوع محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه) .

أخرجه أبو نعيم في الحلية، (وكان كهمس) بن الحسن العابد معاصرا للحسن البصري ، روى عن جماهير التابعين [ ص: 392 ] (يقول: إلهي، أجعتني وأعريتني، وفي ظلم الليالي أجلستني، فبأي وسيلة بلغتني ما بلغتني) ، نقله صاحب القوت، (وكان فتح) بن شخرف (الموصلي) رحمه الله تعالى، (إذا اشتد مرضه وجوعه يقول: إلهي، ابتليتني بالمرض والجوع، وكذلك تفعل بأوليائك، فبأي عمل أؤدي شكر ما أنعمت به علي) ، نقله صاحب القوت، (وقال) أبو يحيى (مالك بن دينار) البصري رحمه الله تعالى: (قلت لمحمد بن واسع) البصري: (يا أبا عبد الله ، طوبى لمن كانت له غليلة تقوته وتغنيه عن الناس. فقال: يا أبا يحيى ، طوبى لمن أصبح جائعا، وأمسى جائعا، وهو عن ربه راض) ، نقله صاحب القوت، (وكان الفضيل) بن عياض رحمه الله تعالى (يقول: إلهي أجعتني وأجعت عيالي، وتركتني في ظلم الليالي بلا مصباح، وإنما تفعل هذا بأوليائك، فبأي منزلة نلت هذا منك؟) نقله صاحب القوت، (وقال يحيى بن معاذ) الرازي رحمه الله تعالى: (جوع الراغبين منبهة) ، أي: مما يحمل على النباهة، أي: الشرف والرفعة، (وجوع التابعين تجربة) بتعود أنفسهم إياه واستئناسهم به (وجوع المجتهدين) في العبادة (كرامة) يكرمهم الله تعالى بها ليشغلهم بمناجاته، (وجوع الصابرين سياسة، وجوع الزاهدين حكمة) .

أخرجه القشيري في الرسالة بلفظ: الجوع للمريدين رياضة، وللتائبين تجربة، وللعارفين مكرمة ، وقد علم من هذا أن الجوع لا يستغني عنه مريد متفرغ للطاعة، ولا تائب عن الذنب، ولا زاهد قد أعرض عن الدنيا، ولا عارف كمل شغله بالمولى، (وفي التوراة: اتق الله، وإذا شبعت فاذكر الجياع. وقال أبو سليمان) عبد الرحمن بن أحمد بن عطية (الداراني) رحمه الله تعالى: (لأن أترك لقمة من عشائي أحب إلي من قيام ليلة إلى الصبح) .

أخرجه القشيري في الرسالة، فقال: سمعت محمد بن الحسين يقول: سمعت محمد بن أحمد بن سعيد الرازي يقول: سمعت العباس يقول: قال أحمد بن الحواري : قال أبو سليمان الداراني : "لأن أترك من عشائي لقمة أحب إلي من أن أقوم الليل إلى آخره" . أي أن حال العبد مع الجوع في عبادته بعض الليل أقرب إلى الخشوع من قيامه، وهو شبعان كل الليل، (وقال) الداراني أيضا: ( الجوع عند الله في خزانة، لا يعطيه إلا لمن أحبه ) ، نقله صاحب القوت .




الخدمات العلمية