الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
بل ورد ما هو أشد من هذا ، قال أنس استشهد غلام منا يوم أحد ، فوجدنا على بطنه حجرا مربوطا من الجوع فمسحت أمه عن وجهه التراب ، وقالت : هنيئا لك الجنة يا بني . فقال صلى الله عليه وسلم وما : يدريك ، لعله كان يتكلم فيما لا يعنيه ، ويمنع ما لا يضره .

وفي حديث آخر إن النبي صلى الله عليه وسلم فقد كعبا فسأل عنه ، فقالوا : مريض . فخرج يمشي حتى أتاه فلما دخل عليه قال : أبشر يا كعب . فقالت أمه : هنيئا لك الجنة يا كعب . فقال صلى الله عليه وسلم : من هذه المتألية على الله ؟ قال هي أمي يا رسول الله . قال : وما يدريك يا أم كعب ، لعل كعبا قال ما لا يعنيه أو منع ما لا يغنيه .

ومعناه أنه : إنما تتهيأ الجنة لمن لا يحاسب ، ومن تكلم فيما لا يعنيه حوسب عليه ، وإن كان كلامه غير مباح ، فلا تتهيأ الجنة مع المناقشة في الحساب ؛ فإنه نوع من العذاب .

وعن محمد بن كعب قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن أول من يدخل من هذا الباب رجل من أهل الجنة . فدخل عبد الله بن سلام فقام إليه ناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبروه بذلك ، وقالوا : أخبرنا بأوثق عمل في نفسك ترجو به . فقال : إني لضعيف ، وإن أوثق ما أرجو به الله سلامة الصدر وترك ما لا يعنيني .

وقال أبو ذر قال : لي رسول الله صلى الله عليه وسلم ألا : أعلمك بعمل خفيف على البدن ، ثقيل في الميزان ؟ قلت : بلى يا رسول الله . قال : هو الصمت وحسن الخلق وترك ما لا يعنيك وقال مجاهد سمعت ابن عباس يقول : خمس لهن أحب إلي من الدهم الموقوفة لا تتكلم فيما لا يعنيك ؛ فإنه فضل ، ولا آمن عليك الوزر ولا تتكلم فيما يعنيك حتى تجد له موضعا ؛ فإنه رب متكلم في أمر يعنيه قد وضعه في غير موضعه ، فعنت ولا تمار حليما ولا سفيها ; فإن الحليم يقليك والسفيه يؤذيك واذكر أخاك إذا غاب عنك بما تحب أن يذكرك به وأعفه ، مما تحب أن يعفيك منه وعامل ، أخاك بما تحب أن يعاملك به واعمل ، عمل رجل يعلم أنه مجازى بالإحسان ، مأخوذ بالاحترام وقيل للقمان الحكيم : ما حكمتك ؟ قال : لا أسأل عما كفيت ، ولا أتكلف ما لا يعنيني وقال مورق العجلي أمر أنا في طلبه منذ عشرين سنة لم أقدر عليه ، ولست بتارك طلبه . قالوا : وما هو قال ؟ : السكوت عما لا يعنيني وقال عمر رضي الله عنه : لا تتعرض لما لا يعنيك ، واعتزل عدوك ، واحذر صديقك من القوم إلا الأمين ، ولا أمين إلا من خشي الله تعالى ، ولا تصحب الفاجر فتتعلم من فجوره ، ولا تطلعه على سرك ، واستشر في أمرك الذين يخشون الله تعالى .

.

التالي السابق


(بل ورد ما هو أشد من هذا، قال أنس) بن مالك رضي الله عنه [ ص: 461 ] (استشهد غلام منا) أي: من الأنصار، (يوم أحد، فوجدنا على بطنه حجرا مربوطا) أي: من الجوع، (فمسحت أمه عن وجهه التراب، وقالت: هنيئا لك يا بني. فقال صلى الله عليه وسلم: ما يدريك، لعله كان يتكلم فيما لا يعنيه، ويمنع ما لا يضره) قال العراقي : رواه الترمذي من حديث أنس مختصرا، وقال غريب: رواه ابن أبي الدنيا في الصمت بلفظ المصنف بسند ضعيف. اهـ .

قلت: قال ابن أبي الدنيا ، حدثني عبد الرحمن بن صالح الأزدي ، حدثنا يحيى بن يعلى الأسلمي ، عن الأعمش ، عن أنس بن مالك قال: "استشهد غلام منا يوم أحد، فوجد على بطنه صخرة مربوطة من الجوع، فمسحت أمه التراب عن وجهه وقالت: هنيئا لك يا بني الجنة.." ، فساقه، ولعل وجه ضعف هذا السند أن الأعمش لم يثبت سماعه عن أنس ، له رؤية فقط، لا رواية، أو لأن يحيى بن يعلى الأسلمي ضعفه أبو حاتم وغيره. (وفي حديث آخر أن النبي صلى الله عليه وسلم فقد كعبا) أي: ابن عجرة، (فسأل عنه، فقالوا:) هو (مريض. فخرج يمشي حتى أتاه) عائدا له، (فلما دخل عليه قال: أبشر يا كعب. فقالت أمه: هنيئا لك الجنة. فقال صلى الله عليه وسلم: من هذه المتألية على الله؟ قال) كعب : (هي أمي يا رسول الله. قال: وما يدريك يا أم كعب ، لعل كعبا قال ما لا يعنيه أو منع ما لا يغنيه) قال العراقي : رواه ابن أبي الدنيا في الصمت من حديث كعب بن عجرة بإسناد جيد، إلا أن الظاهر انقطاعه بين الصحابي، وبين من رواه عنه. اهـ .

قلت: قال ابن أبي الدنيا : حدثنا أحمد بن عيسى المصري ، حدثنا ضمام بن إسماعيل الإسكندراني ، حدثني يزيد بن أبي حبيب ، وموسى بن وردان بن كعب بن عجرة أن النبي صلى الله عليه وسلم فقد كعبا.. فساقه، كما هنا، أما كعب ، ففي قول الواقدي مات سنة اثنتين وخمسين، وأما موسى بن وردان فإنه مات سنة سبع عشرة، وله أربع وسبعون سنة، فكان عمره لما مات كعب نحو أربع عشرة سنة، وعلى هذا يمكن سماعه منه، وأما يزيد بن أبي حبيب فإنه مات سنة ثمان وعشرين ومئة، وبلغ زيادة على خمس وسبعين سنة، فكان عمره حين مات كعب نحو أربع سنين، فتأمل .

(ومعناه: إنما يتهيأ للجنة من لا يحاسب، ومن تكلم فيما لا يعنيه حوسب عليه ، وإن كان كلامه مباحا، فلا تتهيأ الجنة مع المناقشة في الحساب؛ فإنه نوع عذاب) ، من نوقش في الحساب عذب، (وعن محمد بن كعب) بن سليم بن أسد القرظي رحمه الله تعالى، كنيته أبو حمزة ، مدني نزل الكوفة ، ولد سنة أربعين على الصحيح، مات سنة عشرين ومئة، روى له الجماعة، (قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن أول من يدخل الجنة من هذا الباب رجل من أهل الجنة. فدخل عبد الله بن سلام ) رضي الله عنه، (فقام إليه ناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبروه بذلك، وقالوا: أخبرنا عن أوثق عمل في نفسك ترجو به. فقال: إني ضعيف، وإن أوثق ما أرجو به سلامة الصدر وترك ما لا يعنيني) قال العراقي : رواه ابن أبي الدنيا هكذا مرسلا، وفيه أبو معشر نجيح ، اختلف فيه. اهـ .

قلت: قال ابن أبي الدنيا : حدثنا علي بن الجعد ، أخبرني أبو معشر عن محمد بن كعب قال: قال صلى الله عليه وسلم.. فساقه، وفيه: فأخبروه بقول النبي صلى الله عليه وسلم وقالوا: أخبرنا بأوثق عملك. وفيه: إني لضعيف. وفيه: لسلامة الصدر ، والباقي سواء، وأبو معشر نجيح بن عبد الرحمن السندي مولى بني هاشم ، مشهور بكنيته، روى له أصحاب السنن، ضعيف أسن، واختلط، مات سنة سبعين ومئة، وقد رواه أيضا أسد بن موسى ، عن أبي معشر هذا، (وقال أبو ذر) الغفاري رضي الله عنه: (قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: ألا أعلمك بعمل خفيف على البدن، ثقيل في الميزان؟ قلت: بلى يا رسول الله. قال: هو الصمت وحسن الخلق وترك ما لا يعنيك ) قال العراقي : رواه ابن أبي الدنيا بسند منقطع. اهـ .

قلت: قال ابن أبي الدنيا : حدثنا هارون بن عبد الله ، حدثنا يزيد بن محمد بن خنيس عن وهيب بن الورد ، بلغه أن أبا ذر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم.. فساقه، (وقال مجاهد) بن جبير المكي التابعي: ( سمعت ابن عباس يقول: خمس لهن أحب إلي من الدهم الموقفة ) ، أي: من الخيل الدهم التي أوقفت وأعدت للركوب، الأولى: (لا تتكلم فيما لا يعنيك؛ فإنه فضل، ولا آمن عليك الوزر) أي: الإثم، (ولا [ ص: 462 ] تتكلم فيما يعنيك حتى تجد له موضعا؛ فإنه رب متكلم في أمر يعنيه قد وضعه في غير موضعه، فعنت) أي: وقع في العنت، وهو الشدة والحرج، (و) الثانية: (لا تمار حليما ولا سفيها; فإن الحليم يقليك) أي: يبغضك بقلبه، (والسفيه يؤذيك) بلسانه، (و) الثالثة: (اذكر أخاك إذا غاب عنك بما تحب أن يذكرك به، واعفه مما تحب أن يعفيك منه، و) الرابعة: (عامل أخاك بما تحب أن يعاملك به، و) الخامسة: (اعمل عمل رجل يعلم أنه مجازى بالإحسان، مأخوذ بالاحترام) .

أخرجه ابن أبي الدنيا فقال: حدثني أبو محمد العتكي عبد الرحمن بن صالح ، حدثني أبو هارون جليس لأبي بكر بن عياش ، عن محرز التميمي ، عن مجاهد ، عن ابن عباس قال: سمعته يقول: خمس لهن أحسن من الدهم الموقفة.. فساقه، (وقيل للقمان الحكيم : ما حكمتك؟ قال: لا أسأل عما كفيت، ولا أتكلف ما لا يعنيني) . أخرجه ابن أبي الدنيا ، فقال: حدثني علي بن الجعد عن شعبة ، عن سيار أبي الحكم قال: قيل للقمان .. فساقه .

(وقال مورق العجلي) هو أبو المعتمر مورق بن مشمرج بن عبد الله البصري، ثقة عابد، روى له الجماعة: ( أمر أنا في طلبه منذ عشرين سنة لم أقدر عليه، ولست بتارك طلبه. قالوا: وما هو يا أبا المعتمر ؟ قال: السكوت عما لا يعنيني ) أخرجه ابن أبي الدنيا ، فقال: حدثنا محمد بن سعد ، حدثنا عفان ، عن جعفر بن سليمان ، عن المعلى بن زياد قال: قال مورق العجلي .. فساقه، (وقال عمر) بن الخطاب (رضي الله عنه: لا تتعرض لما لا يعنيك، واعتزل عدوك، واحذر صديقك من القوم إلا الأمين، ولا أمين إلا من خشي الله تعالى، ولا تصحب الفاجر فتتعلم من فجوره، ولا تطلعه على سرك، واستشر في أمرك الذين يخشون الله ) أخرجه ابن أبي الدنيا بسندين; الأول قال: حدثنا عبد الله بن خيران أخبرنا المسعودي ، عن وديعة، يعني الأنصاري ، قال: قال عمر بن الخطاب : "لا تتعرض لما لا يعنيك.." فساقه. والثاني: قال: حدثنا محمد بن الصباح ، حدثنا حبان بن علي ، عن محمد بن عجلان ، عن إبراهيم بن مرة ، عن عمر بن الخطاب نحوه، ورواه أبو نعيم في الحلية من طريق أبي بكر بن أبي شيبة ، حدثنا عبد الله بن إدريس ، عن محمد بن عجلان ، عن إبراهيم بن مرة ، عن محمد بن شهاب قال: "قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: لا تتعرض فيما لا يعنيك، واعتزل عدوك، واحتفظ من خليلك إلا الأمين؛ فإن الأمين من القوم لا يعادله شيء، ولا تصحب الفاجر، فيعلمك من فجوره، ولا تفش إليه سرك، واستشر في أمرك الذين يخشون الله" ، وقد تقدم ذلك أيضا في كتاب آداب الصحبة .



(تنبيه)

وقد بقي على المصنف ما هو على شرطه، روى ابن أبي الدنيا من طريق زيد بن أسلم أنه دخل على ابن أبي دجانة وهو مريض ووجهه يتهلل، فقال: ما من عملي شيء أوثق في نفسي من اثنتين، لم أتكلم فيما لا يعنيني، وكان قلبي للمسلمين سليما . ومن طريق عمرو بن قيس الملائي : إن رجلا مر بلقمان والناس عنده، فقال: ألست عبد بني فلان؟ قال: بلى. قال: الذي كنت ترعى عند جبل كذا وكذا؟ قال: بلى. قال: ما الذي بلغ بك ما أرى؟ قال: صدق الحديث، وطول السكوت عما لا يعنيني . ومن طريق داود بن أبي هند قال: بلغني أن معاوية قال لرجل: ما بلغ من حلمك؟ قال: لا يعنيني ما لا يعنيني . ومن طريق جعفر بن سليمان قال: سمعت سميطا العيشي يقول: من لزم ما يعنيه أوشك أن يترك ما لا يعنيه . ومن طريق ثابت الشمالي عن أبي جعفر قال: كفى عيبا أن يبصر العبد من الناس ما يعمى عليه من نفسه، وأن يؤذي جليسه فيما لا يعنيه .

وأخرج الخرائطي من حديث ابن مسعود قال: أتى النبي صلى الله عليه وسلم رجل فقال: يا رسول الله، إني مطاع في قومي، فما آمرهم؟ قال: مرهم بإفشاء السلام، وقلة الكلام إلا فيما يعنيهم.

وأخرج العقيلي من حديث أبي هريرة : أكثر الناس ذنوبا أكثرهم كلاما فيما لا يعنيه .

وروى أبو عبيدة عن الحسن قال: من علامة إعراض الله عن العبد أن يجعل شغله فيما لا يعنيه . وقال سهل التستري : من تكلم فيما لا يعنيه حرم الصدق . وقال معروف : كلام العبد فيما لا يعنيه خذلان من الله عز وجل .




الخدمات العلمية