الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
وإن قدر على حفظ عينه عن النساء ولم يقدر على حفظها عن الصبيان ، فالنكاح أولى به فإن الشر في الصبيان أكثر فإنه لو مال قلبه إلى امرأة أمكنه الوصول إلى استباحتها بالنكاح والنظر إلى وجه الصبي بالشهوة حرام بل كل من يتأثر قلبه بجمال صورة الأمرد بحيث يدرك التفرقة بينه وبين الملتحي لم يحل له النظر إليه .

فإن قلت : كل ذي حس يدرك التفرقة بين الجميل والقبيح لا محالة ولم تزل وجوه الصبيان مكشوفة فأقول : لست أعني تفرقة العين فقط ، بل ينبغي أن يكون إدراكه التفرقة كإدراكه التفرقة بين شجرة خضراء وأخرى يابسة ، وبين ماء صاف وماء كدر ، وبين شجرة عليها أزهارها وأنوارها وشجرة ، تساقطت أوراقها ، فإنه يميل إلى إحداهما بعينه وطبعه ولكن ميلا خاليا عن الشهوة ; ولأجل ذلك لا يشتهي ملامسة الأزهار والأنوار وتقبيلها ولا تقبيل الماء الصافي ، وكذلك الشيبة الحسنة قد تميل العين إليها وتدرك التفرقة بينها وبين الوجه القبيح ، ولكنها تفرقة لا شهوة فيها ، ويعرف ذلك بميل النفس إلى القرب والملامسة ، فمهما وجد ذلك الميل في قلبه وأدرك تفرقة بين الوجه الجميل وبين النبات الحسن والأثواب المنقشة والسقوف المذهبة فنظره نظر شهوة فهو ، حرام ، وهذا مما يتهاون به الناس ويجرهم ذلك إلى المعاطب وهم لا يشعرون .

قال بعض التابعين : ما أنا بأخوف من السبع الضاري على الشاب الناسك من غلام أمرد يجلس إليه . وقال سفيان لو أن رجلا عبث بغلام بين إصبعين من أصابع رجله يريد الشهوة لكان لواطا ، وعن بعض السلف قال : سيكون في هذه الأمة ثلاث أصناف لوطيون : صنف ينظرون وصنف يصافحون ، وصنف يعملون .

فإذن آفة النظر إلى الأحداث عظيمة فمهما عجز المريض عن غض بصره وضبط فكره ، فالصواب له أن يكسر شهوته بالنكاح ، فرب نفس لا يسكن توقانها بالجوع .

وقال بعضهم : غلبت علي شهوتي في بدء إرادتي بما لم أطق ، فأكثرت الضجيج إلى الله تعالى ، فرأيت شخصا في المنام ، فقال: ما لك؟ : ؟ فشكوت إليه ، فقال : تقدم إلي . فتقدمت إليه فوضع يده على صدري ، فوجدت بردها في فؤادي وجميع جسدي ، فأصبحت وقد زال ما بي ، فبقيت معافى سنة ، ثم عاودني ذلك فأكثرت الاستغاثة فأتاني شخص في المنام ، فقال لي : أتحب أن يذهب ما تجده وأضرب عنقك ؟ قلت : نعم . فقال : مد رقبتك . فمددتها فجرد سيفا من نور ، فضرب به عنقي ، فأصبحت وقد زال ما بي ، فبقيت معافى سنة ثم عاودني ذلك أو أشد منه ، فرأيت كأن شخصا فيما بين جنبي وصدري يخاطبني ويقول : ويحك كم تسأل الله تعالى ما لا يحب رفعه . قال : فتزوجت فانقطع ذلك عني وولد لي .

التالي السابق


(وإن قدر) المريد (على حفظ عينه عن الزنا) بأن غضها وسترها ولفها، (ولم يقدر على حفظها عن الصبيان المرد، فالنكاح أولى به) ، ومن أحسن أعماله، وأرفع أحواله; لأن المباح مقام من لا مقام له، والرجوع إلى الحلال حال من ليس له حال، وذلك (لأن الشر في الصبيان أكثر) ؛ فإن المرأة معها شيطان، والأمرد معه شيطانان، (فلو مال قلبه إلى امرأة أمكنه الوصول إلى استباحتها بالنكاح) ، وإذا مال إلى الأمرد فلا محالة يوقعه في الحرام؛ إذ لا سبيل إلى استباحة الاستمتاع به بحال من الأحوال. ( والنظر إلى وجه الصبي بالشهوة حرام) باتفاق [ ص: 435 ] العلماء، (بل كل من يتأثر قلبه لجمال صورة الأمرد ) أي: يقع الأثر فيه من رؤية محاسنه الظاهرة، بحيث يحس بما رآه، (وبحيث يدرك تفرقة بينه وبين الملتحي) أي: صاحب اللحية (لم يحل له النظر) أصلا، (فإن قلت: كل ذي حس يدرك التفرقة بين الجميل) الصورة، (والقبيح) الصورة، (ولم تزل وجوه الصبيان مكشوفة) ، وهم يدخلون في المحافل هكذا، ويراهم الرجال من غير نكير، فما معنى قولك: من أدرك التفرقة بين الجميل والقبيح وتأثر بجماله قلبه لم يحل له النظر؟ (فأقول: لست أعني) بالتفرقة المذكورة (تفرقة العين فقط، بل ينبغي أن يكون إدراكه التفرقة كإدراكه التفرقة بين شجرة خضراء ويابسة، وبين ماء صاف وماء كدر، وبين شجرة عليها أنوارها وأزهارها، وبين شجرة تساقطت أوراقها، فإنه يميل إلى إحداهما بعينه) الباصرة وطبعه المركوز في جبلته، (ولكن ميلا خاليا عن الشهوة; ولأجل ذلك لا يشتهى ملامسة الأزهار والأنوار وتقبيلها) وشمها، (ولا تقبيل الماء الصافي، وكذلك الشيبة الحسنة قد تميل العين إليها وتدرك التفرقة بينها وبين الوجه القبيح، ولكنها تفرقة لا شهوة فيها، ويعرف ذلك بميل النفس إلى القرب والملامسة، فمهما وجد ذلك الميل بقلبه وأدرك تفرقة بين الوجه الجميل وبين النبات الحسن والأثواب المنقشة) بأنواع النقوش، (والسقوف المذهبة) المزخرفة، (فنظره) حينئذ (نظر شهوة، وهو حرام، وهذا مما يتهاون به الناس) غالبا، (ويجرهم ذلك إلى المعاطب) ، أي: المهالك، (وهم لا يشعرون) ، بل غافلون أو متغافلون، (وقال بعض التابعين: ما أنا بأخوف من السبع الضاري على الشاب الناسك) ، أي: العابد (من غلام أمرد يجلس إليه. وقال سفيان) الثوري: (لو أن رجلا عبث بغلام بين أصبعين من أصابع رجليه يريد) بذلك (الشهوة، كان لوطيا. وعن بعض السلف قال: سيكون في هذه الأمة ثلاثة أصناف لوطيون: صنف ينظرون) فقط، من قريب أو بعيد، (وصنف يصافحون، وصنف يعملون) أخرجه السهروردي في المعارف. وقال القشيري في آخر الرسالة: ومن أصعب الآفات في هذه الطريقة صحبة الأحداث ، ومن ابتلاه الله بشيء من ذلك، فبإجماع الشيوخ ذلك عبد أهانه الله وقلاه، بل عن نفسه شغله، ولو بألف ألف كرامة أهله، وهب أنه بلغ رتبة الشهداء، أليس قد شغل ذلك القلب بمخلوق؟ وأصعب من ذلك تهوين ذلك على القلب حتى يصير بعد ذلك يسيرا، قال الله عز وجل: وتحسبونه هينا وهو عند الله عظيم ، وهذا الواسطي يقول: وإذا أراد الله هوان عبد ألقاه إلى هؤلاء الأنتان والجيف، سمعت أبا عبد الله الصوفي يقول: سمعت محمد بن أحمد النجار يقول: سمعت أبا عبد الله الحصري يقول: سمعت فتحا الموصلي يقول: صحبت ثلاثين شيخا، كانوا يعدون من الأبدال، كلهم أوصوني عند فراقي إياهم وقالوا: اتق معاشرة الأحداث، ومخالطتهم .

ومن ارتقى في هذا الباب عن حالة الفسق، إشارة إلى أن ذلك من بلاء الأرواح، فإنه لا يضره، وما قالوه من وساوس القائلين بالشاهد، وإيراد الحكايات عن الشيوخ بما كان الأولى بهم إسبال الستر على هناتهم وآفاتهم، فذلك نظير الشرك وقرين، فليحذر المريد من مجالسة الأحداث ومخالطتهم، فإن اليسير منه قبيح، وهو فتح باب الخذلان، ومداخل الهجران، ونعوذ بالله من قضاء السوء .

(فإذا آفة النظر إلى الأحداث عظيمة) وعاقبته وخيمة، (فمهما عجز المريد عن غض بصره وضبط فكره، فالصواب له أن يكسر شهوته بالنكاح، فرب نفس لا يسكن توقانها بالجوع) إذا كانت تصيب من شهوتها بعد الجوع الطويل، فذلك أشد باعث لها على حركة الشهوة، فأما إن كان يجوع ولا يأ كل إلا خبزا بحتا مع ماء، ودام على ذلك، فإنه يسكن التوقان، وقد تقدمت الإشارة إليه، (وقال بعضهم: غلبت علي شهوتي) ، ولفظ القوت: حدثني بعض الفقراء قال: استفحلت علي صيفتي مرة (في بدء إرادتي بما لم أطق، فأكثرت) ، لفظ القوت: فكنت أكثر (الضجيج إلى الله تعالى، فرأيت [ ص: 436 ] شخصا في المنام، فقال: ما لك؟ فشكوت إليه، فقال: تقدم إلي. فتقدمت) إليه، (فوضع يده على صدري، فوجدت بردها في فؤادي وجميع جسدي، فأصبحت وقد زال ما بي، فبقيت معافى سنة، ثم عاودني ذلك) أي: راجعني بمثله أو أشد منه، (فأكثرت الاستغاثة) إلى الله تعالى، (فأتاني شخص في المنام، فقال لي: أتحب أن يذهب ما تجده وأضرب عنقك؟ قلت: نعم. فقال: مد رقبتك. فمددتها)إليه، (فجرد سيفا من نور، فضرب به عنقي، فأصبحت وقد زال ما بي، فبقيت معافى سنة ثم عاودني ذلك) بمثله (أو أشد منه، فرأيت كأن شخصا فيما بين جنبي وصدري يخاطبني ويقول: ويحك لم تسأل) ، ولفظ القوت: كم تسأل، (الله تعالى رفع ما لا يحب رفعه. قال: فتزوجت فانقطع عني) ذلك، (وولد لي) . ولفظ القوت بعد قوله: فانقطع ذلك عني: فكان ذلك سبب ذريته، فولد له .




الخدمات العلمية