الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            معلومات الكتاب

                                                                                                                                            الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

                                                                                                                                            الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            فصل : فأما أكل الحمير ، فما كان منها وحشيا فأكله حلال ، روى الشافعي ، عن مطرف بن مازن ، عن معمر بن يحيى بن أبي كثير ، عن عبد الله بن أبي قبالة ، عن أبيه قال : بينما أنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عام الحديبية ، وقد أحرم من أحرم من أصحابي ، ولم أحرم ، فإذا أنا بحمار وحشي ، فحملت عليه فطعنته برمحي فصرعته فأكلنا من لحمه ، ثم لحقت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقلت : أصبت حمارا وحشيا وعندي منه فأكله ، وقال للقوم وهم محرمون : كلوا فأكلوا .

                                                                                                                                            فدل هذا الحديث على ثلاثة أحكام : على إباحة أكل الحمار الوحشي ، ودل على أن زكاة الصيد الممتنع في أي موضع أصيب من جسده ، ودل على أن المحرم يحل له أن يأكل من صيد المحرم إذا لم يصده لأجله .

                                                                                                                                            وروى الصعب بن جثامة قال : أتيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - برجل حمار وحشي ، فرده علي فتعمر وجهي ، فلما عرف الكراهة في وجهي قال : ما بنا رد عليك ، ولكنا قوم حرم ، فامتنع من أكله لإحرامه ، فإن الصعب صاده لأجله بعد إحلاله من الإحرام . وفي قول الصعب : رجل حمار وحشي تأويلان :

                                                                                                                                            أحدهما : يعني به أحد رجليه التي يمشي عليها .

                                                                                                                                            والثاني : أنه أراد جماعة حمير يقال لها : رجل ، كما يقال حيط نعام ، وسرب ظباء ، وهو أشبه ، لأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا يقصد وهو في كثير من أصحابه بهدية عضو من حمار .

                                                                                                                                            فأما الحمير الأهلية فأكلها حرام ، واختلف أصحابنا ، هل حرمت باستخباث العرب لها أو بالنص في المنع منها : على وجهين ، وبتحريمها . قال جمهور الصحابة والتابعين والفقهاء ، وقال عبد الله بن عباس وسعيد بن جبير : أكلها حلال احتجاجا بحديث رواه الشافعي ، عن سفيان ، عن مسعر ، عن عبيد بن الحسن ، عن أبي معقل قال : " أخبرنا رجلان من مزينة قالا : قلنا يا رسول الله ، إنه لم تبق لنا الشدة إلا الحمر ، أفنأكل منها ؟ فقال : أطعما أهلكما من سمين ، فإني إنما قدرت عليكم بجوال القربة " ، يعني : أكلة الزبل والعذرة .

                                                                                                                                            [ ص: 142 ] قال الشافعي : لا أعرف من ثبوت هذا الحديث على الانفراد ما أعرف من ثبوت نهي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن لحوم الحمر الأهلية فأحرمها .

                                                                                                                                            ونهيه عنها دليل على إباحة الحمر الوحشية ، لأنه إذا نهى عن شيء يجمع صنفين ، فقد أباح ما يخرج عن صنفه .

                                                                                                                                            والدليل على تحريم الحمر الأهلية ما رواه الشافعي ، عن سفيان ، عن أيوب السختياني ، عن محمد بن سيرين ، عن أنس بن مالك قال : صبح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خيبر بكرة ، وقد خرجوا بالشاة من الحصن ، فلما رأوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قالوا : محمد والخميس ، ثم لجوا إلى الحصن ، فرفع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يديه ثلاثا ، وقال : الله أكبر ، خربت خيبر ، إنا إذا نزلنا بساحة قوم فساء صباح المنذرين ، فلما فتحوها أصابوا حمرا فطبخوا منها ، فنادى منادي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ألا إن الله ورسوله ينهاكم عنها ، فإنها رجس ، فكفوا القدور وإنها لتفور .

                                                                                                                                            فاحتمل ما حكموا به من أكلها ، لأنهم كانوا يستطيبونها كالحمر الوحشية ، حتى نهوا عنها بالنص .

                                                                                                                                            واحتمل أن يكونوا هموا بذلك لمجاعة لحقتهم حتى نهوا عنها بالفتح ، فلذلك ما اختلف أصحابنا في علة تحريمها على وجهين ، والله أعلم .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية