الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            مسألة : قال الشافعي : " وإذا حلف أن لا يأكل هذه الحنطة فطحنها أو خبزها أو قلاها ، فجعلها سويقا لم يحنث ؛ لأنه لم يأكل ما وقع عليه اسم قمح " .

                                                                                                                                            قال الماوردي : اعلم أنه لا يخلو يمين من حلف لا يأكل حنطة من أمرين : إبهام أو تعيين .

                                                                                                                                            فإن أبهم ، ولم يعين ، فقال : والله لا أكلت حنطة ، أو لا أكلت الحنطة ، فهما سواء ، ويحنث بأن يأكلها حبا صحيحا ، ولا يحنث أن يأكلها خبزا أو دقيقا أو سويقا وهذا متفق عليه ، لأنه إذا أبهم صارت اليمين معقودة على الاسم دون العين ، فيحنث بما انطلق عليه ذلك الاسم ، ولا يحنث بما زال عنه ذلك الاسم ، وقد زال اسم الحنطة عنها بعد طحنها وخبزها .

                                                                                                                                            ألا تراه لو حلف : لا كلم صبيا ، فكلم رجلا ، أو لا أكل رطبا ، فأكل تمرا لم يحنث ، وإن علمنا أن الرجل قد كان صبيا ، والتمر قد كان رطبا ، لانعقاد اليمين في الإبهام على الاسم دون العين .

                                                                                                                                            وإن عين فقال : والله لا أكلت هذه الحنطة ، تعينت الحنطة في يمينه ، ولم يحنث بأكل غيرها .

                                                                                                                                            واختلفوا في بقاء الاسم عليها ، هل يكون شرطا في عقد اليمين ، لا يقع الحنث إلا مع بقائه ؟

                                                                                                                                            [ ص: 422 ] فذهب الشافعي وأبو حنيفة إلى أن بقاء الاسم شرط في الحنث ، فإن قضمها حبا حنث ، لبقاء اسم الحنطة عليها ، وإن طحنها ، فأكلها خبزا أو دقيقا أو سويقا لم يحنث ، لزوال اسم الحنطة عنها .

                                                                                                                                            فأما الشافعي فجرى على قياس مذهبه فيمن حلف لا يدخل في هذه الدار ، فصارت طريقا أنه لا يحنث ، لزوال اسم الدار عنها بعد الهدم ، كزوال اسم الحنطة عنها بعد الطحن .

                                                                                                                                            وأما أبو حنيفة فناقض مذهبه في الدار ، فجعله حانثا بعد الهدم ، ولم يجعله حانثا في الطعام بعد الطحن ، وقد اشتركا في زوال الاسم .

                                                                                                                                            وقال أبو يوسف ومحمد وأبو العباس بن سريج من أصحابنا : إن اليمين معقودة على العين دون الاسم ، فيحنث بأكلها خبزا ودقيقا وسويقا ، كما يحنث بقضمها حبا صحيحا ، احتجاجا بأن الاسم موضوع لتعريف اليمين .

                                                                                                                                            فإذا عرفت بالتعيين سقط حكم الاسم استشهادا بما وقع الاتفاق عليه أنه لو حلف لا آكل من هذا الجمل ، فذبحه وأكل من لحمه حنث ، وإن لم يكن بعد الذبح جملا ، وهذا فاسد من وجهين :

                                                                                                                                            أحدهما : أن المستفاد بالتعيين هو نقل الحكم من عموم المبهم إلى خصوص العين ، فإذا كان الاسم معتبرا في المبهم وجب أن يكون معتبرا في المعين .

                                                                                                                                            والثاني : أن العقد اشتمل على تسمية وتعيين ، فلما كان بقاء العين شرطا وجب أن يكون بقاء الاسم شرطا .

                                                                                                                                            فأما الجمل فالفرق بينه وبين الحنطة من وجهين :

                                                                                                                                            أحدهما : أنه لا يمكن أكل الجمل حيا ، ويمكن أكل الحنطة حبا .

                                                                                                                                            والثاني : أن الشيء منع من أكل الجمل حيا ، ولم يمنع من أكل الحنطة حبا ؛ فلهذين ما افترقا في بقاء الاسم وزواله .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية