الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            مسألة : قال الشافعي : " أو زبدا فأكل لبنا لم يحنث ؛ لأن كل واحد منها غير صاحبه " .

                                                                                                                                            قال الماوردي : أما إذا حلف لا يأكل لبنا ولا يشرب اللبن حنث بكل لبن مباح من معهود وغير معهود ، فالمعهود ألبان الإبل والبقر والغنم ، وغير المعهود لبن الصيد . وعند ابن سريج أنه يحنث بالمعهود من ألبان النعم ، ولا يحنث بغير المعهود من ألبان الصيد ، كما قال في البيض .

                                                                                                                                            فأما ألبان الخيل فهي معهودة في بلاد الترك ، وغير معهودة في بلاد العرب .

                                                                                                                                            وأما ألبان الآدميات فمعهودة في الصغار ، وغير معهودة في الكبار .

                                                                                                                                            وفي حنثه بالألبان المحرمة ، كألبان الحمير والكلاب وجهان ، كما قلنا في حنثه باللحوم المحرمة :

                                                                                                                                            أحدهما : يحنث اعتبارا بالاسم .

                                                                                                                                            [ ص: 429 ] والثاني : لا يحنث اعتبارا بالشرع .

                                                                                                                                            وأما إذا حلف لا يأكل زبدا ، فالزبد المعهود يكون من لبن البقر والغنم ، وليس لألبان الإبل زبد ، فيحنث بزبد البقر والغنم .

                                                                                                                                            وإن كان لألبان شيء من الصيد زبد ، فهو نادر غير معهود ، فيحنث به على مذهب الشافعي اعتبارا بالاسم ، ولا يحنث به على قول ابن سريج اعتبارا بالعرف .

                                                                                                                                            ولو حلف بأكل اللباء ، فهو أول لبن يحدث بالولادة بعد انقطاعه بالحمل إذا وافق وقت الولادة وحلب بعدها ، وفي حنثه بما حلب قبلها وجهان من اختلاف الوجهين فيما تقدم على الولادة من دم النفاس ، هل يكون نفاسا على وجهين :

                                                                                                                                            إن قيل : يكون نفاسا ، كان هذا اللبن لباء ، وإن قيل : لا يكون نفاسا ، لم يكن هذا اللبن لباء ، وغالب اللباء بعد الولادة ثلاث حلبات ، وربما زاد ونقص بحسب اختلاف الحيوان في القوة والضعف .

                                                                                                                                            وصفته ما خالف اللبن في لونه وقوامه ، فإن لون اللباء يميل إلى الصفرة ، وهو أثخن من اللبن ، وهو عند الرعاة معروف .

                                                                                                                                            وسواء أكله نيئا أو مطبوخا ، وإن كان عرفه أن يؤكل مطبوخا كاللحم .

                                                                                                                                            فإذا تقررت هذه الجملة ، وحلف أن لا يأكل زبدا ، فأكل لبنا لم يحنث ، لأنه مفارق للزبد في الاسم والصفة .

                                                                                                                                            ولو أكل سمنا ففي حنثه وجهان :

                                                                                                                                            أحدهما : وهو قياس قول ابن أبي هريرة يحنث به ، لاشتراكهما في الصفة ، ولو حلف لا يأكل لبنا حنث بجميع ما تناوله اسم اللبن على الإطلاق من حليب ومخيض ورائب وذائب وجامد .

                                                                                                                                            فأما الزبد فلا يحنث به إذا حلف لا يأكل لبنا ، كما لا يحنث بأكل اللبن إذا حلف لا يأكل زبدا . وقال أبو علي بن أبي هريرة : يحنث بالزبد إذا حلف لا يأكل اللبن ، لأنه من اللبن ، ولا يحنث باللبن إذا حلف لا يأكل الزبد ، لأنه ليس اللبن من الزبد .

                                                                                                                                            وعلل ذلك بأن اسم اللبن عام واسم الزبد خاص ، فدخل خصوص الزبد في عموم اللبن ، ولم يدخل عموم اللبن في خصوص الزبد ، وهذا قول فاسد ، ولو كان للفرق بينهما وجه ، لكان عكس قوله أولى ، فيحنث باللبن إذا حلف لا يأكل زبدا ، لأن في اللبن زبدا ، ولا يحنث بالزبد إذا حلف لا يأكل لبنا ، لأنه ليس في الزبد لبن ، فلما [ ص: 430 ] كان هذا فاسدا كان ما ذهب إليه من العكس أفسد ، ووجب أن يعتبر ما قررناه من اجتماع الأمرين الاسم والصفة ، لأنه مستمر في القياس ، فلا يحنث بالزبد إذا حلف لا يأكل اللبن ، ولا يحنث باللبن إذا حلف لا يأكل الزبد ، لأنهما يختلفان في الاسم والصفة .

                                                                                                                                            وعلى هذا القياس إذا حلف لا يأكل اللبن لم يحنث بالجبن والمصل .

                                                                                                                                            وإذا حلف لا يأكل الجبن والمصل لا يحنث باللبن ، لاختلافهما في الاسم والصفة ، وعند ابن أبي هريرة أنه يحنث بالجبن والمصل إذا حلف لا يأكل اللبن ، لأنهما من اللبن ، ولا يحنث باللبن إذا حلف لا يأكل الجبن والمصل ، لأن اللبن لا يكون منهما .

                                                                                                                                            ولو كان لقوله هذا وجه ، لوجب أن يحنث بالتمر إذا حلف لا يأكل رطبا ، لأنه من رطب ولا يحنث بالرطب إذا حلف لا يأكل التمر ، لأنه ليس من التمر ، ولا أحسب ابن أبي هريرة يقول هذا ، وإن كان تعليله يقتضيه ، لأن الإجماع منعقد على خلافه .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية