الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            فصل : فإذا صح جوازه من كل باذل لم يخل التبدل من ثلاثة أقسام :

                                                                                                                                            أحدها : أن يختص به السابق وحده دون غيره ، كقوله : إذا كان المتسابقون عشرة ، فقد جعلت للسابق منكم عشرة ، وهذا جائز ، فأيهم جاء سابقا لجماعتهم استحق العشرة كلها ، ولا شيء لمن بعده ، وإن كانوا متفاضلين في السبق ، فلو سبق اثنان من الجماعة ، فجاءا معا ، وتأخر الباقون ، اشترك الاثنان في العشرة ، لتساويهما في السبق ، فاستويا في الأخذ ، ولو سبق خمسة اشتركوا في الأخذ كذلك ، ولو سبق تسعة وتأخر واحد اشتركوا في العشرة دون المتأخر منهم ، ولو جاءوا مجيئا واحدا لم يتأخر عنهم واحد منهم ، فلا شيء لهم : لأنه ليس فيهم سابق ، ولا مسبوق .

                                                                                                                                            [ ص: 190 ] والقسم الثاني : أن يبذله لجماعة منهم ، ولا يبذله لجميعهم ، كأنه بذل للأول عوضا وللثاني عوضا ، ولكل واحد منهم في اللغة اسم إذا تقدم على غيره خاص يقال للسابق الأول : المجلي ، والثاني : المصلي ، والثالث : التالي ، والرابع : البارع ، والخامس : المرتاح ، والسادس : الحظي ، والسابع : العاطف ، والثامن : المؤمل ، والتاسع : اللطيم ، والعاشر : السكيت ، وليس لما بعد العاشر اسم إلا الذي يجيء آخر الخيل ، كلها ، يقال له : الفسكل ، فإذا بذل لبعض دون بعض ، فعلى ضربين :

                                                                                                                                            أحدهما : أن يفاضل بين السابق والمسبوق ، فيجعل للأول الذي هو المجلي عشرة ، ويجعل للثاني الذي هو المصلي تسعة ، والثالث الذي هو التالي خمسة ، والرابع الذي هو البارع أربعة ، والخامس الذي هو المرتاح ثلاثة ، ولا يجعل لمن بعدهم شيئا فإن هذا جائز : لأنه قد منع المسبوقين وناضل بين السابقين ، فحصل التحريض في طلب التفاضل ، وخشية المنع .

                                                                                                                                            ويتفرع على هذا أن يجعل للسابق عشرة ، وللمصلي خمسة ، ولا يجعل لمن بعدهم شيئا ، فيكون السابق خمسة والمصلي واحدا ، فيقسم الخمسة السابقين بالعشرة لكل واحد درهمان ، وينفرد الواحد المصلي بالخمسة ، وإن صار بهما أفضل من السابقين ، لأنه أخذ الزيادة لتفرده بدرجته ، ولم يأخذها لتفضيل أصل درجته ، وقد كان يجوز أن يشاركه غيره في درجته ، فيقل سهمه عن سهم من بعده ، ثم على هذا القياس إذا جعل للتالي شيئا ثالثا ، فحصل من كل درجة انفراد أو اشتراك ، وجب أن يختص المنفرد بسبق درجته ، ويشترك المشتركون بسبق درجتهم .

                                                                                                                                            والضرب الثاني : أن يسوي فيهم بين سابق ومسبوق كأنه جعل للسابق عشرة وللمصلي عشرة ، وفاضل بين بقية الخمسة ، وهذا غير جائز : لأن مقتضى التحريض ، أن يفاضل بين السابق والمسبوق فإذا تساويا فيه بطل مقصوده فلم يجز ، وكان السبق من حق المصلي الذي سوى بينه وبين سابقه باطلا ، ولم يبطل في حق الأول ، وفي بطلانه في حق من عداه وجهان بناء على اختلاف الوجهين في الذي بطل السبق في حقه ، هل يستحق على الباذل أجرة مثله أم لا على وجهين :

                                                                                                                                            أحدهما : وهو قول أبي إسحاق المروزي أنه لا أجرة له على الباذل ، لأن منعه عائد عليه ، لا على الباذل .

                                                                                                                                            فعلى هذا يكون السبق في حق من بعده ، باطلا : لأنه يجوز أن يفضلوا به عن من سبقهم .

                                                                                                                                            والوجه الثاني : وهو قول أبي علي الطبري أن له على الباذل أجرة مثله ، لأن من [ ص: 191 ] استحق المسمى في العقد الصحيح استحق أجرة المثل في العقد الفاسد اعتبارا بكل واحد من عقدي الإجارة والجعالة ، فعلى هذا يكون السبق في حق من بعده صحيحا ، ولكل واحد منهم ما سمي له ، وإن كان أكثر من أجرة مثل من بطل السبق في حقه : لأنه لا يجوز أن يفضلوا عليه إذا كان مستحقا بالعقد ، وهذا مستحق بغيره .

                                                                                                                                            ويتفرع على هذا إذا جعل للأول عشرة ، ولم يجعل للثاني شيئا ، وجعل للثالث خمسة وللرابع ثلاثة ، ولم يجعل لمن بعدهم شيئا ، فالثاني خارج من السبق لخروجه من البدل ، ومن قيام من بعده مقامه وجهان :

                                                                                                                                            أحدهما : يقوم الثالث مقام الثاني ، ويقوم الرابع مقام الثالث : لأنه يصير وجوده بالخروج من السبق كعدمه ، فعلى هذا يصح السبق فيها ، بالمسمى لهما بعد الأول .

                                                                                                                                            والوجه الثاني : أنهم يترتبون على التسمية ، ولا يكون خروج الثاني منهم بالحكم مخرجا له من الثالث ، فعلى هذا يكون السبق فيها باطلا ، لتفضيلها على السابق لهما ، وهل يكون لهما أجرة مثلها أم لا على ما ذكرنا من الوجهين .

                                                                                                                                            والقسم الثالث : أن يبذل العوض لجماعتهم ، ولا يخلى آخرهم من عوض ، فينظر ، فإن سوى فيهم بين سابق ومسبوق كان السبق باطلا ، وكان الحكم فيه على ما قدمنا ، وإن لم يساو بين السابق والمسبوق ، وفضل كل سابق على كل مسبوق ، حتى يجعل مستأخرهم أقلهم سهما ، ففي السبق وجهان :

                                                                                                                                            أحدهما : أنه جائز اعتبارا بالتفاضل في السبق ، فعلى هذا يأخذ كل واحد منهم ما سمي له .

                                                                                                                                            والوجه الثاني : أن السبق باطل : لأنهم قد تكافئوا في الأخذ ، وإن تفاضلوا فيه ، فعلى هذا هل يكون باطلا في حق الآخر وحده : فيه وجهان :

                                                                                                                                            أحدهما : أنه باطل في حقه وحده : لأن بالتسمية له فسد السبق .

                                                                                                                                            والوجه الثاني : أنه يكون باطلا في حقوق جماعتهم : لأن أول العقد مرتبط بآخره ، وهل يستحق كل واحد منهم أجرة مثله أم لا على الوجهين المذكورين ، فهذا حكم السبق الأول .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية