الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            فصل : ولو قال : والله لا أكلت أدما حنث بأكل اللحم والسمك والجبن والملح والزيتون ، وبما يصطبغ به كالخل والزيت واللبن والسمن .

                                                                                                                                            وقال أبو حنيفة : لا يحنث إلا بما يصطبغ به ، وهو الأدم خاصة ، وهو ما ينصبغ به الخبز مثل الخل والزيت واللبن والسمن ، وما أشبه ذلك ، استدلالا بما روي عن عائشة - رضي الله عنها أنها قالت : دخل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والبرمة تفور بلحم وأدم ، فقدمنا له خبزا بأدم البيت ، فقال : ألم أر برمة فيها لحم ؟ قلنا : بلى يا رسول الله ، ولكن ذاك لحم تصدق به على بريرة ، وأنت لا تأكل الصدقة ، فقال : هو لها صدقة ، ولنا هدية فميزت بين اللحم والأدم في الاسم ، فدل على تمييزها فيه .

                                                                                                                                            ودليلنا ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : سيد الأدم اللحم ، ونعم الإدام الخل فجمع بينهما في اسم الأدم ، فدل على اشتراكهما فيه ؛ ولأن اسم الأدم مشتق من استطابة أكل الخبز به حتى يستحب ويستمرأ ، مأخوذ من قول العرب : أدم الله بينكما أي أصلح بينكما بالمحبة . وروى أبو عبيد في " غريب الحديث " أن المغيرة بن شعبة خطب امرأة ، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - لو نظرت إليها ، فإنه أحرى أن يؤدم بينكما .

                                                                                                                                            فحكى أبو عبيد عن الكسائي معناه : أن تكون بينكما المودة والاتفاق ، وهذا المعنى في اللحم أوفى منه في الصبغ ، فدل على أنه باسم الإدام أخص .

                                                                                                                                            وتمييز عائشة - رضي الله عنها - إنما كان لاختلاف النوع ، ولم يكن لاختلاف الاسم ، فإذا ثبت هذا القسم فما يستطاب به أكل الخبز أربعة أقسام :

                                                                                                                                            [ ص: 442 ] أحدها : ما يكون إداما يحنث بأكله منفردا ، وبالخبز ، وهو ما يؤتدم به في الأغلب من اللحم والسمك والبيض واللبن ، وما في معناه .

                                                                                                                                            والقسم الثاني : ما لا يكون أدما ، ولا يحنث بأكله منفردا ، ولا بالخبز ، وهو الفواكه كلها ؛ لأن اسم الأدم لا ينطلق عليها من عرف عام ولا خاص ، والمستئدم بها خارج عن العرب .

                                                                                                                                            والقسم الثالث : ما لا يكون إداما إذا انفرد عن الخبز ، ويصير إداما إذا أكل بالخبز ، وهو يستأدم به في خصوص العرف دون عمومه كالعسل والدبس والتمر ، فلا يحنث به إن أكله منفردا ، ويحنث به إن أكله بالخبز ؛ لأنه قد صار بالخبز إداما ، ولم يكن بانفراده إداما .

                                                                                                                                            وقد روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - إنه أعطى سائلا خبزا وتمرا ، وقال : هذا إدام هذا .

                                                                                                                                            والقسم الرابع : ما اختلف فيه لاختلاف أحواله ، فيؤكل تارة قوتا ، وتارة أدما كالأرز والباقلاء فله في أكله ثلاثة أحوال :

                                                                                                                                            أحدها : أن يأكله مخبوزا ، فقد صار بهذه الصفة قوتا ، فلا يحنث بأكله .

                                                                                                                                            والحال الثانية : أن يأكله مطبوخا بخبز أو يصنع به ، فقد صار بهذه الصفة إداما يحنث بأكله .

                                                                                                                                            والحال الثالثة : أن يأكله مطبوخا منفردا بغير خبز ، ففي حنثه بأكله ثلاثة أوجه :

                                                                                                                                            أحدها : يحنث به اعتبارا بصفته في الائتدام .

                                                                                                                                            والوجه الثاني : لا يحنث به اعتبارا بأصله في الأقوات .

                                                                                                                                            والوجه الثالث : أن يعتبر عرف بلده ، فإن كان في عرفهم إداما كأهل العراق حنث بأكله ، وإن كان في عرفهم قوتا كطبرستان لم يحنث بأكله . والله أعلم .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية