الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            مسألة : قال الشافعي : " ولو حلف لا يأكل سمنا فأكله بالخبز أو بالعصيدة أو بالسويق حنث ؛ لأن السمن لا يكون مأكولا إلا بغيره ، إلا أن يكون جامدا فيقدر على أن يأكله جامدا مفردا " .

                                                                                                                                            قال الماوردي : أما السمن فله حالتان : جامد ، وذائب .

                                                                                                                                            [ ص: 419 ] فإذا حلف لا آكل سمنا ، فله في أكله حالتان :

                                                                                                                                            إحداهما : أن يأكله منفردا .

                                                                                                                                            والثانية : أن يأكله مع غيره .

                                                                                                                                            فإن أكله منفردا ، وكان جامدا حنث ، وإن كان ذائبا لم يحنث ، لأنه يكون للجامد آكلا ، وللذائب شاربا .

                                                                                                                                            وإن أكله مع غيره من خبز أو سويق أو في عصيدة ، فقد اختلف أصحابنا في حنثه على ثلاثة أوجه :

                                                                                                                                            أحدها : - وهو قول أبي سعيد الإصطخري - أنه لا يحنث إذا خلطه بغيره ، سواء كان جامدا أو ذائبا ، ولم يطلق عليه اسم الأكل إلا بانفراده ، وأجراه مجرى قوله : والله لا أكلت طعاما اشتراه زيد ، فاشترى زيد وعمرو طعاما ، فأكله لم يحنث .

                                                                                                                                            والوجه الثاني : - وهو قول أبي إسحاق المروزي - أنه إن كان جامدا لم يحنث بأكله مع غيره ، وإن كان ذائبا حنث بأكله مع غيره ، لأنه يقدر على أكل الجامد منفردا ، ولا يقدر على أكل الذائب إلا مع غيره .

                                                                                                                                            والوجه الثالث : وهو مذهب الشافعي ، وما عليه جمهور أصحابه أنه يحنث بأكله مع غيره إذا كان ظاهرا فيه ، كما يحنث بأكله منفردا ، سواء كان جامدا أو ذائبا ، لأن اختلاط ما حلف عليه بما لم يحلف عليه لا يمنع من وقوع الحنث به ، كما لو حلف : لا أكلم زيدا ، فكلم جماعة هو فيهم حنث ، وكما لو حلف : لا آكل طعاما اشتراه زيد ، فاشترى زيد طعاما ، واشترى عمرو طعاما ، فخلطهما وأكلهما ، حنث كذلك السمن إذا خلطه بغيره حنث بأكلهما .

                                                                                                                                            وعلى هذا يكون التفريع ، فإذا أكل السمن مع غيره ، فجعله عصيدا ، أو بل فيه خبزا أو لت فيه سويقا ، فله أربعة أحوال :

                                                                                                                                            أحدها : أن يظهر فيه طعمه إذا أكل ، أو يظهر فيه بياض لونه إذا ثرد ، فيحنث بأكله لظهور صفتي السمن من طعم ولون .

                                                                                                                                            والحال الثانية : أن لا يظهر فيه طعمه إذا أكل ، ولا يظهر فيه لونه إذا ثرد ، فلا يحنث بأكله ، لأن السمن قد صار بعدم الصفتين مستهلكا .

                                                                                                                                            والحال الثالثة : أن يظهر فيه طعمه إذا أكل ، ولا يظهر فيه لونه إذا ثرد ، فلا يحنث بأكله ، لأن يمينه مستهلكة ، فلم يحنث بطعمه .

                                                                                                                                            والحال الرابعة : أن يظهر فيه لونه إذا ثرد ، ولا يظهر فيه طعمه إذا أكل ، فيحنث بأكله ، لبقاء عينه ، فلم يؤثر فقد طعمه .

                                                                                                                                            [ ص: 420 ] وهكذا لو حلف لا يأكل عسلا ولا دبسا ، كان كالسمن ، لأنهما يجمدان تارة ، ويذوبان أخرى ، ويؤكلان منفردين ومختلطين ، فيكون على ما قدمناه من الجواب .

                                                                                                                                            فأما إذا حلف لا يأكل خلا ، فالخل ذائب ، وقل أن يجمد .

                                                                                                                                            وإذا كان ذائبا لم يحنث بأكله منفردا ، لأنه يصير شاربا ، ولا يكون آكلا .

                                                                                                                                            وإن أكل مع غيره من خبز أو في سكباج فإن صار مستهلكا فيه لم يحنث ، وإن كان ظاهرا فيه حنث .

                                                                                                                                            وكذلك إذا حلف لا يأكل لبنا ، فأكله بغيره أو طبخه مع غيره ، فإن حلف لا يشرب لبنا فخلطه بغيره ، فإن كان ما خلطه به جامدا لم يحنث ، لأنه يصير آكلا ، ولا يكون شاربا ، وإن خلطه بمائع ، فإن كان اللبن أغلب ، لظهور لونه وطعمه حنث بشربه ، وإن كان مغلوبا لخفاء لونه وطعمه لم يحنث .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية