الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 10 ] وقال تعالى: قل ادعوا الذين زعمتم من دون الله . [الإسراء: 56] هذا خطاب وأمر للنبي -صلى الله عليه وسلم- بأن يقول لكفار قريش، أو للكفار على الإطلاق.

قال مقاتل: يقول: ادعوهم ليكشفوا عنكم الضر الذي نزل بكم في سني الجوع.

ثم أجاب عنهم سبحانه، فقال: لا يملكون مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض [سبأ: 22] أي: ليس لهم قدرة على خير ولا شر، ولا على جلب نفع، ولا دفع ضر في أمر من الأمور، وذكر السماوات والأرض؛ لقصد التعميم؛ لكونهما ظرفي الموجودات الخارجية.

وما لهم فيهما من شرك ، أي: ليس للآلهة الباطلة في السماوات والأرض مشاركة، لا بالخلق، ولا بالملك، ولا بالتصرف.

وما له منهم من ظهير [سبأ: 22] أي: وما لله تعالى من تلك الأمور من معين يعينه على شيء من أمور السماوات والأرض، ومن فيهما؛ بل هو المنفرد بالإيجاد والإبقاء، فهو الذي يعبد، وعبادة غيره محال.

ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له [سبأ: 23] استثناء مفرغ من أعم الأحوال. أي: لا تنفع الشفاعة في حال من الأحوال إلا كائنة لمن أذن له أن يشفع؛ من الملائكة، والنبيين، ونحوهم من أهل العلم والعمل.

ومعلوم أن هؤلاء لا يشفعون إلا لمن يستحق الشفاعة، لا للمشركين والكافرين، ولا يستحقها إلا من عبد الله وحده لا شريك له، وكان عاصيا، لا مشركا ولا مبتدعا، بلغت به البدعة إلى حد الكفر.

وقيل: المعنى: لا تنفع الشفاعة من الشفعاء المتأهلين لها في حال من [ ص: 11 ] الأحوال إلا كائنة لمن أذن له؛ أي لأجله: وفي شأنه من المستحقين للشفاعة لهم، لا من عداهم من غير المستحقين لها.

وقيل: المراد بقوله: لا تنفع الشفاعة أنها لا توجد أصلا إلا لمن أذن له. وإنما علق النفي بنفعها لا بوقوعها؛ تصريحا بنفي ما هو غرضهم من وقوعها. ومثل هذه الآية قوله تعالى: من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه [البقرة: 255]، وقوله سبحانه: ولا يشفعون إلا لمن ارتضى ، وهذا تكذيب لقولهم: هؤلاء شفعاؤنا عند الله . وقد ثبت بهذا أن الشفاعة لا تكون إلا بإذن الله، ولا تكون إلا لمن ارتضي، ولا يعلم أحد هل هو ممن ارتضى له، أم لا؟

ثم أخبر الله سبحانه عن خوف هؤلاء الشفعاء والمشفوع لهم فقال: حتى إذا فزع عن قلوبهم [] الفاعل هو الله سبحانه، وقرئ مبنيا للفاعل، وفاعله ضمير يرجع إليه سبحانه، وكلتا القراءتين بتشديد الزاي.

و"فعل" معناه السلب، فالتفزيع إزالة الفزع، وقرئ مخففا. قال قطرب: معنى فزع أخرج ما فيها من الفزع، وهو الخوف. وقال مجاهد: كشف عن قلوبهم الغطاء يوم القيامة. وقال ابن عباس: فزع: جلي.

والمعنى: أن الشفاعة لا تكون من أحد من هؤلاء المعبودين من دون الله؛ من الملائكة، والأنبياء، والأصنام، كائنا من كان، إلا أن يأذن الله للملائكة والأنبياء ونحوهم في الشفاعة لمن يستحقها، وهم على غاية الفزع من الله، كما قال تعالى: وهم من خشيته مشفقون [الأنبياء: 28].

فإذا أذن لهم في الشفاعة، فزعوا بما يقترن بتلك الحالة من الأمر الهائل [ ص: 12 ] والخوف الشديد من أن يقع في تنفيذ ما أذن لهم فيه تقصير، أو يحدث شيء من أقدار الله، فإذا سري عنهم، قالوا للملائكة فوقهم، أو هم الذين يوردون عليهم الوحي بالإذن: ماذا قال ربكم [ ] أي: ماذا أمر الله به؟ قالوا: أي: فيقولون لهم: قال القول الحق وهو قبول شفاعتكم للمستحقين لها دون غيرهم. وهو العلي الكبير ، فله أن يحكم في عباده بما يشاء، ويفعل ما يريد، ليس لملك، ولا نبي أن يتكلم ذلك اليوم إلا بإذنه، وأن يشفع إلا لمن ارتضى.

وقيل: هذا الفزع يكون للملائكة في كل أمر يأمر به الرب. والمعنى: لا تنفع الشفاعة إلا من الملائكة الذين هم فزعون اليوم، مطيعون لله، دون الجمادات والشياطين.

وقيل: إن الذين يقولون: ماذا قال ربكم هم المشفوع لهم، والذين أجابهم هم الشفعاء من الملائكة، والأنبياء.

وقال الحسن، وابن زيد، ومجاهد: معنى الآية: حتى إذا كشف الفزع عن قلوب المشركين في الآخرة، قالت لهم الملائكة: ماذا قال ربكم في الدنيا؟ قالوا الحق ، فأقروا حين لا ينفعهم الإقرار.

وقيل: إنما يفزعون حذرا من قيام الساعة، وقيل: كشف الفزع عن قلوبهم عند نزول الموت.

أخرج ابن أبي حاتم، وابن مردويه، عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: لما أوحى الجبار إلى محمد -صلى الله عليه وسلم- دعا الرسول من الملائكة ليبعثه بالوحي، فسمعت الملائكة صوت الجبار يتكلم بالوحي، فلما كشف عن قلوبهم، سألوا عما قال الله، فقالوا: الحق، وقد علموا أن الله لا يقول إلا حقا. قال ابن عباس: وصوت الوحي كصوت الحديد على الصفا. فلما سمعوا، خروا سجدا، فلما رفعوا رؤوسهم قالوا ماذا قال ربكم قالوا الحق وهو العلي الكبير .

[ ص: 13 ] وأخرج عبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم أيضا عنه، قال: ينزل الأمر إلى السماء الدنيا، له وقعة كوقعة السلسلة على الصخرة، فيفزع له جميع أهل السماوات فيقولون: ماذا قال ربكم . ثم يرجعون إلى أنفسهم، فيقولون: الحق وهو العلي الكبير .

وأخرج البخاري، وأبو داود والترمذي، وابن ماجه، وغيرهم من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «إذا قضى الله الأمر في السماء، ضربت الملائكة بأجنحتها خضعانا لقوله، كأنه سلسلة على صفوان، ينفذهم ذلك، فإذا فزع عن قلوبهم قالوا ماذا قال ربكم قالوا للذي قال الحق وهو العلي الكبير » . قال الترمذي: هذا حديث صحيح.

وعن ابن مسعود: «إذا تكلم الله بالوحي، سمع أهل السماوات صلصلة كجرس السلسلة على الصفا، فيصعقون، فلا يزالون كذلك حتى يأتيهم جبريل، فإذا جاء، فزع عن قلوبهم، فيقولون: يا جبريل! ماذا قال ربك؟ فيقول: الحق» أخرجه أبو داود. والصلصلة: صوت الأجراس الصلبة بعضها على بعض. وفي معناه أحاديث.

هذا تفسير الآية على وفق ما ذكره المفسرون، وفيه بيان أشياء: منها، نفي مشاركة مخلوق بالخالق في شيء. ومنها: عدم نفع الشفاعة عنده تعالى إلا لمن أذن له. ومنها: فزع الخلق من الملائكة والأنبياء ونحوهم عند نزول الأمر منه سبحانه. ومنها: كيفية نزول للوحي في الأحاديث المذكورة في تفسير هذه الآية. ومنها: أن الوحي صوتا يسمع. [ ص: 14 ] ومنها: علوه سبحانه على خلقه، وكونه فوقه. كما قال في آية أخرى الرحمن على العرش استوى [طه: 5]، إلى غير ذلك. والمراد بإيرادها في هذا الموضع هو رد الإشراك في التصرف فقط.

قال بعض أهل العلم في تفسير هذه الآية: يعني: أن من يسأل مرادا له عن أحد، أو يدعوه عند مشكل، فلا بد أن يكون ذلك المسؤول أو المدعو مالكا بنفسه، أو شريكا لمالك في ملكه، أو تكون شركته على مالك؛ كما يقبل السلطان قول الأمراء والوزراء؛ لشوكتهم، وشأنهم الرفيع، ومكانهم المنيع؛ لأنهم عضد له، وركن لسلطنته، وفي سخطهم تفسد السلطنة عليه، أو يشفع أحد عند مالك الأمر، فيقبل شفاعته طوعا أو كرها؛ كقبول شفاعة أزواج الملوك وأبنائهم؛ فإن الملك لا يرد شفاعتهم؛ لمحبة له بهم، وإن لم يرض قلبه بها، فيقبل منهم الشفاعة على رضا أو سخط. فالذين يدعونهم هؤلاء، ويسألون منهم المرادات ليسوا بمالك لذرة في السماوات، ولا في الأرض، ولا هو شريك فيهما، ولا ركن في سلطنة الله تعالى، ولا عضد له سبحانه حتى يقبل منه ما يقول؛ رعاية لشوكته ومكانته. بل لا يقدر هو على الشفاعة من دون إذن الله له بها، حتى يقبلها منه طوعا أو كرها. بل المسؤولون والمدعوون المذكورون حالهم في حضرته تعالى شأنه أنهم إذا قضى الله أمرا، وحكم حكما يفزعون، ويدهشون، ويرعبون. ومن غاية الرعب ونهاية الدهشة لا يستطيعون أن يسألوه عنه مرة أخرى: ماذا قال وحكم؟ وإنما يسأل واحد آخر عن شأن ذلك القضاء والأمر.

فإذا تحقق أنه سبحانه قال كذا، وأمر كذا، قالوا: آمنا وصدقنا، فضلا عن أن يردوه عليه، ويتنازعوا فيه، ولا قدرة لأحد أن يصير وكيلا، وحاميا لأحد.

قال -رضي الله عنه-: وهنا كلام نافع، استمعوا له، وكونوا على ذكر منه، [ ص: 15 ] وهو أن أكثر الناس عيال على شفاعة الأنبياء والأولياء، ومعولون عليها، وهم ناسون الله، غلطا منهم في المعنى المراد، فعليك أن تفقه معنى الشفاعة.

التالي السابق


الخدمات العلمية