الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
الفأل من الطيرة

قال ابن القيم: أخبر صلى الله عليه وسلم-: أن الفأل من الطيرة، وهو خيرها. فأبطل الطيرة، وأخبر أن الفأل منها، ولكنه خير منها.

ففصل بين الفأل والطيرة؛ لما بينهما من الامتياز والتضاد، ونفع أحدهما، ومضرة الآخر.

ونظير هذا منعه من الرقى بالشرك، وإذنه في الرقية إن لم يكن فيها شرك، ولما فيها من المنفعة الخالية من المفسدة.

فإذا رأى أحدكم ما يكره فليقل: «اللهم لا يأتي بالحسنات إلا أنت، ولا يدفع السيئات إلا أنت، ولا حول ولا قوة إلا بك».

أي: لا تأتي الطيرة بالحسنات، ولا تدفع المكروهات، بل أنت وحدك لا شريك لك الذي يأتي بها ويدفعها.

«والحسنات» هنا: النعم، و «السيئات»: المصائب ؛ كقوله سبحانه: وإن تصبهم حسنة يقولوا هذه [النساء: 78] الآية، إلى قوله: ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك ، ففيه نفي تعلق القلب بغير الله في جلب نفع، أو دفع ضر، وهذا هو التوحيد.

وهو دعاء مناسب لمن وقع في قلبه شيء من الطيرة، وتصريح بأنها لا تجلب نفعا، ولا تدفع ضرا، ويعد من اعتقدها سفيها مشركا.

وفي قوله: «ولا حول... إلخ» استعانة بالله تعالى على فعل التوكل، وعدم الالتفات إلى الطيرة التي قد تكون سببا لوقوع مكروه ؛ عقوبة لفاعلها.

وذلك الدعاء إنما يصدر عن حقيقة التوكل، الذي هو أقوى الأسباب في جلب الخيرات، ودفع المكروهات.

[ ص: 154 ] و «الحول»: التحول والانتقال من حال إلى حال، و «القوة» على ذلك بالله وحده لا شريك له.

ففيه التبري منهما، ومن المشيئة بدون حول الله، وقوته، ومشيئته.

وهذا هو التوحيد في الربوبية، وهو الدليل على توحيد الألوهية الذي هو إفراد الله تعالى بجميع أنواع العبادة، وهو توحيد القصد، والإرادة.

وقد تقدم بيان ذلك مفصلا بحمد الله.

ولأحمد من حديث ابن عمرو: «من ردته الطيرة عن حاجته فقد أشرك». وذلك أن الطيرة من التشاؤم بالشيء المرئي، أو المسموع.

فإذا رده شيء من ذلك عن حاجته التي عزم عليها ؛ كإرادة السفر، وعقد النكاح، ونحوهما، فمنعه عما أراده، وسعى فيه ما رأى وسمع تشاؤما، فقد دخل في الشرك، فلا يخلص توكله على الله ؛ لالتفاته إلى ما سواه، فيكون للشيطان منه نصيب، وله من الشرك حظ.

قالوا: فما كفارة ذلك ؟ قال: «أن تقول: اللهم لا خير إلا خيرك، ولا طير إلا طيرك، ولا إله غيرك». ورواه الطبراني أيضا، وفي إسناده ابن لهيعة، وبقية رجاله ثقات .

وبالجملة: فإذا قال ذلك، وأعرض عما وقع في قلبه، ولم يلتفت إليه، كفر الله عنه ما وقع في قلبه ابتداء ؛ لزواله عن قلبه بهذا الدعاء المتضمن للاعتماد على الله وحده، والإعراض عما سواه.

وتضمن هذا الحديث: أن الطيرة لا تضر من كرهها، ومضى في طريقه التوحيدي.

وأما من لم يخلص توكله على الله، واسترسل مع الشيطان في ذلك، فقد يعاقب بالوقوع بما يكره؛ لأنه أعرض عن واجب الإيمان بالله، وأن الخير بيده كله، فهو الذي يجلب لعبده نفعا بمشيئته وإرادته.

وهو الذي يدفع عنه الضر وحده بقدرته ولطفه وإحسانه، فلا خير إلا منه.

[ ص: 155 ] وهو الذي يدفع الشر عن عبده، فما أصابه من ذلك فبذنبه، كما قال سبحانه: ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك [ النساء: 79]. وروى أحمد من حديث الفضل بن عباس: «إنما الطيرة ما أمضاك، أو ردك».

وروي مرفوعا أيضا، وفي سنده انقطاع. وهذا هو الطيرة المنهي عنها؛ لأنها ما يحمل الإنسان على المضي فيما أراده، ويمنعه من المضي فيما أراده كذلك.

وأما الفأل الذي كان النبي صلى الله عليه وسلم- يحبه، ففيه نوع بشارة، ولطيفة غيبية، فيسر به العبد، ولا يعتمد عليه، بل على الله، بخلاف ما يمضيه، أو يرده، فإن للقلب عليه نوع اعتماد. فافهم الفرق، والله أعلم.

التالي السابق


الخدمات العلمية