الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 356 ] بيان أن المحبة الخالصة لله من أصعب الأمور وأندرها

وهنا نكتة لا بد من التنبيه عليها، ذكرها العلامة الشوكاني في «الفتح الرباني» وهي هذه:

قال -رضي الله عنه-: فكرت بعض الليالي في حديث: «المتحابين في الله على منابر من نور» فاستعظمت هذا الجزاء مع حقارة العمل، ثم راجعت الفكر، فوجدت التحاب في الله من أصعب الأمور وأشدها، ووجوده في الأشخاص الإنسانية أعز من الكبريت الأحمر، فذهب ما تصورته من الاستعظام للجزاء.

وبيان ذلك: أن التحاب الكائن بين النوع الإنساني راجع عند إمعان النظر إلى محبة الدنيا، لا يبعث عليه إلا غرض دنيوي.

فإنك إذا عمدت إلى الوداد الكامل من نوع المحبة وهو محبة الولد لوالده، والوالد لولده، وأحد الزوجين للآخر وجدته يؤول إلى محبة الدنيا؛ لزواله بزوال الغرض الدنيوي.

مثلا: لو كان لرجل ولد كامل الأدوات والحواس الظاهرة والباطنة وجدته في الإشفاق عليه والمحبة له بمكان تقصر عنه العبارة؛ لأنه يرجو منه بعد حين أن يقوم بما يحتاج إليه من حوائج الدنيا.

ولو عرض له الموت وهو بهذه الصفة حصل مع والده ما تشاهده فيمن مات ولده من الغم والحزن والتحسر والتلهف والبكاء والعويل.

ولكن هذا ليس إلا لذلك الغرض الدنيوي.

ويوضح هذا: أنه لو حصل مع الولد عاهة من العاهات التي يغلب على الظن استمرارها، وعجز من كانت به عن القيام بأمور الدنيا؛ كالعمى، والإقعاد، وجدت والده عند ذلك -بعد إياسه من عافيته- ربما يتمنى موته، وإذا مات، كان أيسر مفقود، إن لم يحصل السرور للأب بموته.

[ ص: 357 ] فلو كانت تلك المحبة لمحض القرابة -مع قطع النظر عن الدنيا- لوجدت الاتحاد في الشفقة بين الحالتين، ولكن الأمر على خلاف ذلك بالاستقراء، مع أن القرابة لا تزول بزوال البصر مثلا، إنما الذي زال ما كان مؤملا من النفع الدنيوي، وذلك أن المحبوب هو الدنيا، لا الولد لذاته ولا لقرابته.

كذلك محبة الولد لوالده، فإنك تجد الولد قبل اقتداره، مع كون والده هو القائم بجميع ذلك لبقاء قوته وعدم عجزه عن الاكتساب بمنزلة من محبة والده لا يقدر قدرها، ولا يمكن تصور كنهها.

فإذا عرض موته حينئذ، حصل مع الولد من الجزع والفزع ما تشاهده فيمن كان كذلك، وهو عند التحقيق إنما يبكي لما فاته من المنافع التي كانت تصل إليه، وإلى قرابته من والده.

وبرهان هذا: أنه لو بلغ الولد إلى حد لا يحتاج معه في الدنيا إلى أحد، وصار وجود والده كعدمه في إدخال المنافع الدنيوية عليه وعلى من يعول، كان أهون مفقود عليه، بل ربما حصل له بموته السرور، ولا سيما إذا كان للأب شيء من الحطام، وهذا على فرض بقاء قوة الأب وصحته وسلامته، فالأب باق موجود حي سوي.

فلو كانت المحبة للقرابة لكانت هذه الحالة كالتي قبلها، ولكن المحبة إنما في للدنيا، فحيث يتعلق بالأب الغرض الدنيوي كان له من المحبة ما ذكرناه أولا، وحيث لم يتعلق به ذلك الغرض لم يكن له منها شيء كما ذكرناه ثانيا.

وأما إذا بلغ الأب إلى حد الضعف والقعود، والعجز الكلي عن مباشرة الأمور، فربما يتمنى ولده موته، والأبوة والبنوة بحالهما.

فالحاصل: أن بكاء الأب على ولده بكاء على فوت دنياه الآجلة، وبكاء الولد على والده بكاء لدنياه العاجلة.

ومن أنكر هذا، وكرر النظر فيه وأمعنه، فإنه يجده صحيحا.

[ ص: 358 ] كذلك محبة الزوج لزوجته ليست إلا لما يناله منها من اللذات الدنيوية، فلو أصيبت بمصيبة أذهبت ما يدعوه إلى محبتها من جمال، أو كمال، أو حسن تدبير في الأمور والمعايش، وحرص على مال الزوج، لوجدت الزوج يسمح بها للموت، ويعد ذلك من الفرح، فإن تطاول عليه الأمر، كان صبره عليها من أعظم المروءة، وإلا فالغالب تطليقها، فإن أحبها في تلك الحالة؛ لكونها ذات أولاد، فذلك أيضا لأمر يرجع إلى الدنيا. كذلك الزوجة مثله فيما سلف.

كذلك المحبة بين الأجانب هي عند التحقيق راجعة جميعها إلى غرض دنيوي.

وقد كشف هذا المعنى حكيم الشعراء، أبو الطيب المتنبي حيث يقول:


كل دمع يسيل منها عليها ويفك اليدين منها تجلى

ثم ذكر صفة كل واحد من المتحابين، فكأنه راجع إلى غرض دنيوي.

ثم قال: فإن قلت: صور لي صورة يصدق في مثلها الحديث.

قلت: يصدق ذلك في مثل رجلين متحابين لمحض غرض أخروي، كمن يتحابان لكونهما يجتمعان على الجهاد في سبيل الله، والاجتماع على طلب العلم، مع خلوص النية وحسن الطوية، والتجرد عن كل غرض فاسد.

فيحب كل واحد منهما الآخر لكونه يستوجب بعمله الجنة، كذلك سائر الطاعات.

ثم ذكر كلاما طويلا في ذلك، هذا حاصله، والله أعلم. انتهى.

وأقول: ملخص القول في هذا الباب أن محبة الأموات الصلحاء من الأنبياء، والأولياء، والآل، والصحاب، والعلماء، والحفاظ، والقراء، ومن له فضيلة دينية ومزية شرعية، من وادي محبة الله؛ لكونه يحبهم لوجه الله، وفي الله، ولله.

[ ص: 359 ] وظن الغرض الدنيوي في هؤلاء مفقود؛ لأن الموت يقطع العمل والأمل. ومحبة الأحياء من الأزواج والأولاد والأقارب والأجانب مظنة للغرض الدنيوي.

وإن لم يتعلق غرض بكل واحد من هؤلاء، فمن أحب أحدا لذلك فليس له من الإخلاص شيء، ومن أحب واحدا لأجل الله، ولكونه عبدا له مطيعا، فهذا من حب الله، وعليه يترتب الأجر الموعود -إن شاء الله تعالى- والمرء مع من أحب.

والذي ينبغي لكل موحد مسلم مؤمن صادق، أن يجعل حبه كله لله، وفي الله.

فإذا حصل له هذا المقام، فقد سقط عن قلبه محبة الأنداد، وبر من الشرك، ووصل إلى مقام التوحيد بخالص الوداد، وصار مصداق قوله سبحانه: والذين آمنوا أشد حبا لله [البقرة: 165] وقوله: يحبهم ويحبونه [المائدة: 54].

اللهم اجعل حبك أحب إلي من الماء البارد، وارزقني حب من تحبه، وحب عمل ترضاه.

وفي التنزيل: إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات سيجعل لهم الرحمن ودا [مريم: 96] وبالله التوفيق، والله المستعان.

التالي السابق


الخدمات العلمية