الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
فصل: ومن أنواعه: الحلف بغير الله

وفي ذلك حديث عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-: أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: «من حلف بغير الله فقد كفر، أو أشرك» رواه الترمذي وحسنه، وصححه الحاكم.

«أو» شك من الراوي أو بمعنى الواو.

وهذا يكون من الكفر الذي هو دون الكفر الأكبر كما هو من الشرك الأصغر، وورد مثل هذا عن ابن مسعود، وقال: لأن أحلف بالله كاذبا أحب إلي من أن أحلف بغيره صادقا.

ومن المعلوم أن الحلف بالله كاذبا من الكبائر، لكن الشرك أكبر منها، وإن كان أصغر.

فإذا كان هذا حال الشرك الأصغر، فكيف بالشرك الأكبر الموجب للخلود في النار، كدعوة غير الله، والاستغاثة به، والرغبة إليه، والرهبة منه، وإنزال حوائجه به، كما هو حال الأكثر من هذه الأمة في هذه الأزمان وما قبلها؛ من تعظيم القبور، واتخاذها أوثانا، والبناء عليها، واتخاذها مساجد، وبناء المشاهد باسم الميت؛ لعبادة من بنيت باسمه وتعظيمه، والإقبال عليه بالقلوب والأقوال والأعمال؟!

وقد عظمت البلوى بهذا الشرك الأكبر الذي لا يغفره الله، وتركوا ما دل عليه القرآن العظيم من النهي عن هذا الشرك وما يوصل إليه.

قال تعالى: فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو كذب بآياته أولئك ينالهم نصيبهم من الكتاب إلى قوله: وشهدوا على أنفسهم أنهم كانوا كافرين [الأعراف: 37].

[ ص: 377 ] كفرهم تعالى بدعوتهم من كانوا يدعونه من دونه في الدار الدنيا.

وقد قال تعالى: وأن المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحدا [الجن: 18]. وقال تعالى: قل إنما أدعو ربي ولا أشرك به أحدا قل إني لا أملك لكم ضرا ولا رشدا [الجن: 21، 22] وهؤلاء المشركون عكسوا الأمر، فخالفوا ما بلغ به الأمة، وأخبر عن نفسه صلى الله عليه وسلم، فعاملوه بما نهاهم من الشرك بالله، والتعلق على غير الله: حتى قال قائلهم:


يا أكرم الخلق ما لي من ألوذ به سواك عند حلول الحادث العمم     إن لم تكن في معادي آخذا بيدي
فضلا وإلا فقل يا زلة القدم     فإن من جودك الدنيا وضرتها
ومن علومك علم اللوح والقلم

وانظر إلى هذا الجهل العظيم، حيث اعتقد أنه لا نجاة له إلا بعياذه ولياذه بغير الله، وانظر إلى هذا الإطراء الفخيم المتجاوز عن الحد الذي نهى عنه من جاء به هذا القائل في حقه، وهو صلى الله عليه وسلم، بأبي هو وأمي، بقوله: «لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى ابن مريم، إنما أنا عبد الله ورسوله» رواه مالك، وغيره.

وقد قال تعالى: قل لا أقول لكم عندي خزائن الله ولا أعلم الغيب ولا أقول لكم إني ملك [الأنعام: 50].

وانظر إلى هذه المعارضة العظيمة لكتاب الله والسنة، والمحادة لله ورسوله.

وهذا الذي قاله هذا الشاعر، هو الذي في نفوس كثير، خصوصا من يدعي العلم والمعرفة بالفقه والمذهب الفلاني والفلاني، ورأوا قراءة هذه المنظومة ونحوها لذلك، وتعظيمها من القربات، فإنا لله وإنا إليه راجعون.

وعن حذيفة -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «لا تقولوا: ما شاء الله وشاء فلان، ولكن قولوا: ما شاء الله، ثم شاء فلان» رواه أبو داود بسند صحيح.

وذلك لأن المعطوف بالواو يكون مساويا للمعطوف عليه؛ لكونها إنما [ ص: 378 ] وضعت لمطلق الجمع، فلا تقتضي ترتيبا ولا تعقيبا، وتسوية المخلوق الذليل بالخالق الجليل شرك، إن كان في الأصغر مثل هذا فهو أصغر، وإن كان في الأكبر فهو أكبر، كما حكى الله سبحانه عنهم في الدار الآخرة: تالله إن كنا لفي ضلال مبين إذ نسويكم برب العالمين [الشعراء: 97- 98].

بخلاف المعطوف بـ«ثم» فإن العطف بها يكون للتراخي عن المعطوف عليه بمهلة، فلا محذور؛ لكونه صار تابعا.

قال إبراهيم النخعي: يكره أن يقول الرجل: أعوذ بالله وبك، ويجوز أن يقول: أعوذ بالله، ثم بك.

وقد تقدم الفرق بين ما يجوز، وما لا يجوز من ذلك.

وهذا إنما هو في الحي الخاص الذي له قدرة وسبب في الشيء، وهو الذي يجري في حقه مثل ذلك.

وأما في حق الأموات الذين لا إحساس لهم بمن يدعوهم، ولا قدرة لهم على نفع ولا ضر، فلا يقال في حقهم شيء من ذلك، فلا يجوز التعلق عليه بشيء ما، بوجه من الوجوه.

والقرآن يبين ذلك، وينادي بأنه يجعلهم آلهة إذا سألوه شيئا منهم، أو رغب إليهم أحد بقوله أو عمله، الباطن والظاهر.

فمن تدبر القرآن، ورزق فهمه، صار على بصيرة من دينه، والقرآن الشريف لا يؤخذ قسرا، وإنما يؤخذ بأسباب، ذكرها بعض الأعلام في قوله:


أخي لن تنال العلم إلا بستة     سأنبيك عن تفصيلها ببيان
ذكاء وحرص واجتهاد وبلغة     وإرشاد أستاذ وطول زمان

وأعظم من هذه الستة من رزقه الله الفهم والحفظ، وأتعب نفسه في تحصيله، فهو الموفق لمن شاء من عباده كما قال تعالى: وعلمك ما لم تكن تعلم وكان فضل الله عليك عظيما [النساء: 113].

[ ص: 379 ] وما أحسن ما قال العلامة ابن القيم:


والجهل داء قاتل وشفاؤه     أمران في التركيب متفقان
نص من القرآن أو من سنة     وطبيب ذاك العالم الرباني
والعلم أقسام ثلاث ما لها     من رابع والحق ذو تبيان
علم بأوصاف الإله وفعله     وكذلك الأسماء للرحمن
والأمر والنهي الذي هو دينه     وجزاؤه يوم المعاد الثاني
والكل في القرآن والسنن التي     جاءت عن المبعوث بالقرآن
والله ما قال امرؤ متحذلق     بسواهما إلا من الهذيان



يدل لما في هذه الأبيات: حديث النبي -صلى الله عليه وسلم-: «العلم ثلاثة: 1- آية محكمة. 2 - أو سنة قائمة 3 - أو فريضة عادلة، وما سوى ذلك فهو فضل» أو كما قال.

والمراد بالفضل: زيادة لا حاجة إليها، ولكن أكثر الناس في هذه الزيادة حتى أخذوا الزيادة والفضول، وتركوا الأصول، وكان أمر الله قدرا مقدورا.

وبالجملة: فقد قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «لا تحلفوا بآبائكم، ومن حلف بالله فليصدق، ومن حلف له بالله فليرض، ومن لم يرض، فليس من الله» رواه ابن ماجه بسند حسن.

وفيه: النهي عن الحلف بغير الله عموما، وهذا التصديق مما أوجبه الله على عباده، وحضهم عليه في كتابه، قال تعالى: يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولا سديدا [التوبة: 70]. وقال: والصادقين والصادقات [الأحزاب: 35]. وقال: فلو صدقوا الله لكان خيرا لهم [محمد: 21] وهو حال أهل البر، كما قال سبحانه: ولكن البر من آمن بالله إلى قوله: أولئك الذين صدقوا [البقرة: 177] إلخ.

ومعنى من «حلف له بالله ... إلخ»: أنه إذا لم يكن له بحكم الشريعة على خصمه إلا اليمين، فأحلفه، فلا ريب أنه يجب عليه الرضاء، وأما إذا كان فيما يجري بين الناس مما قد يقع في الاعتذارات من بعضهم لبعض، ونحو ذلك، [ ص: 380 ] فهذا من حق المسلم على المسلم أن يقبل منه إذا حلف معتذرا، أو متبرئا من تهمة.

ومن حقه عليه أن يحسن به الظن إذا لم يتبين خلافه؛ كما في الأثر عن عمر -رضي الله عنه- ولا تظنن بكلمة خرجت من أخيك شرا وأنت تجد لها في الخير محملا.

وفيه من التواضع، والألفة والمحبة وغير ذلك من المصالح، التي يحبها الله تعالى، ما لا يخفى على من له فهم، وذلك من أسباب اجتماع القلوب على طاعة الله، ثم إنه يدخل في حسن الخلق الذي هو أثقل ما يوضع في ميزان العبد كما في الحديث، وهو من مكارم الأخلاق.

فتأمل أيها الناصح لنفسه ما يصلحك مع الله تعالى؛ من القيام بحقوقه وحقوق عباده، وإدخال السرور على المسلمين، وترك الانقباض عنهم، والترفع عليهم؛ فإن فيه من الضرر ما لا يخطر بالبال، ولا يدور في الخيال.

وبسط هذه الأمور، وذكر ما ورد فيها، مذكور في كتب الأدب وغيرها.

فمن رزق ذلك، وعمل بما ينبغي العمل به، وترك ما يجب تركه من ذلك، دل على وفور دينه، وكمال عقله. والله الموفق المعين لعبده الضعيف المسكين ابن المسكين.

التالي السابق


الخدمات العلمية