الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
وقال تعالى: وأذن في الناس بالحج أي: ونادهم بدعوة الحج والأمر به، والخطاب لإبراهيم -عليه السلام- وقيل: لمحمد -صلى الله عليه وسلم- والأول أظهر.

وعن أبي هريرة، قال: خطبنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فقال: «يا أيها الناس! قد فرض الله عليكم الحج فحجوا» أخرجه مسلم.

يأتوك رجالا هذا جواب الأمر، وعده الله إجابة الناس له إلى حج البيت ما بين راجل وراكب.

وعلى كل ضامر أي: بعير، والضامر: البعير المهزول الذي أتعبه السفر يأتين من كل فج عميق [الحج: 27]، "الفج" الطريق الواسع "العميق" البعيد ليشهدوا أي: ليحضروا منافع لهم وهي تعم منافع الدنيا والآخرة. وقيل: المراد بها المناسك، وقيل: المغفرة، وقيل: التجارة ويذكروا اسم الله عند ذبح الهدايا والضحايا. وقيل: إن هذا الذكر كناية عن الذبح؛ لأنه لا ينفك عنه؛ تنبيها على أن المقصود مما يتقرب به إلى الله تعالى: أن يذكر اسمه.

في أيام معلومات هي أيام النحر، كما يفيد ذلك قوله الآتي: على ما رزقهم من بهيمة الأنعام ، وبه قال ابن عمر، والصاحبان. وقيل: عشر ذي الحجة، وهي قول أكثر المفسرين، والشافعي، وأبي حنيفة على ما رزقهم من بهيمة الأنعام البهيمة: مبهمة في كل ذات أربع، في البر والبحر، فبينت بالأنعام، وهي: الإبل، والبقر، والضأن، والمعز، التي تنحر في يوم العيد وما بعده من الهدايا والضحايا.

فكلوا منها أي: من لحومها، الأمر هنا للندب عند الجمهور. وذهبت طائفة إلى أن الأمر للوجوب، وهذا التفات من الغيبة إلى الخطاب.

[ ص: 55 ] وأطعموا البائس الفقير البائس: ذو البؤس، وهو شدة الفقر، فذكر الفقير بعده لمزيد الإيضاح.

وقال ابن عباس: "البائس": الزمن الذي لا شيء له، والأمر هنا للوجوب، وقيل: للندب.

ثم أي: بعد حلهم وخروجهم من الإحرام، وبعد الإتيان بما عليهم من النسك ليقضوا تفثهم المراد بالقضاء هنا: هو التأدية؛ أي: ليؤدوا إزالة وسخهم؛ لأن التفث هو الوسخ، والدرن، والشعث، والقذارة من طول الشعر والأظفار.

وليوفوا نذورهم أي: ما ينذرون به من البر في حجهم، والأمر للوجوب. وقيل: المراد بالنذر هنا: أعمال الحج، أو الهدايا، والضحايا.

وليطوفوا بالبيت العتيق ، هذا الطواف هو طواف الإفاضة الواجب وقته يوم النحر بعد الرمي والحلق.

قال ابن جرير: لا خلاف في ذلك بين المتأولين، "والعتيق": القديم. قال بعض أهل العلم: يعني: أن الله تعالى جعل بعض الأمكنة لإظهار عظمته وكرامته؛ كالكعبة، وعرفات، والمزدلفة، ومنى، والصفا، والمروة، ومقام إبراهيم، والمسجد الحرام كله، بل سائر مكة المكرمة، وألقى في قلوب الناس شوقا إليه، فيقصدونها من أقصى الغايات، رجالا وركبانا، على مطايا مهزولة، وأنعام ضامرة، في إعياء ومشقة من السفر، وتفث وشعث كثير، ويذبحون هناك على اسمه بهيمة الأنعام، ويوفون نذورهم، ويطوفون بالبيت العتيق، ويظهرون تعظيم ربه الذي امتلأت به قلوبهم كما هو حق الإظهار. فمنهم من يقبل أسكفته، ومنهم من يدعو حيال بابه، ومنهم من يلتزم ستر [ ص: 56 ] الكعبة ملتجئا إليه سبحانه، ومنهم من ينوي اعتكاف البيت، فيشتغل بذكر الله ليلا ونهارا، ومنهم من ينظر إليه قائما في نهاية الأدب. فمثل هذه الأفعال مختصة بتعظيم الله سبحانه، والله تعالى راض عنهم، وهم يستفيدون هناك فوائد الدنيا والدين. فلا ينبغي أن يؤتى بمثل هذه الأفعال في تعظيم من دون الله، ولا مع قبر، وضريحه، وأنصابه، فيقصده من أقصى أمد، ويسافر إليه في عناء وكلفة، ولباس رث، وصورة هي تفث وشعث. فيرد هناك، ويذبح حيوانا، أو ينذر له نذرا، ويطوف بقبره، أو مكانه، ويتأدب لواديه، ولا يصطاد صيده، ولا يعضد شجره، ولا يختلي خلاه، ونحوها من الأفعال، أو يتوقع منه نفعا في الدنيا، أو في الدين؛ فإن هذا كله شرك يجب الاجتناب منه؛ لأن هذه المعاملة لا تليق إلا بالله. وليس هذا الشأن لأحد من المخلوق حتى يعامل ذلك به.

التالي السابق


الخدمات العلمية