الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
ومن يتخذ الشيطان وليا من دون الله باتباعه، وامتثال ما يأمر به، وإيثار ما يدعو إليه، من دون اتباع لما أمر الله به، ولا امتثال له. وقيل: الولي: من الموالاة، وهو الناصر.

فقد خسر بتضييع رأس ماله الفطري خسرانا مبينا واضحا ظاهرا؛ لأن طاعة الشيطان توصله إلى نار جهنم المؤبدة عليه، وهي غاية الخسران.

يعدهم [النساء: 120] أي: المواعيد الباطلة؛ كطول العمر ويمنيهم الأماني العاطلة في الدنيا، وما يعدهم الشيطان أي: بما يوقعه في خواطرهم من الوساوس الفارعة إلا غرورا يغرهم به، ويظهر لهم فيه النفع، وهو ضرر محض.

قال أبو عرفة: «الغرور» ما رأيت له ظاهرا تحبه، وله باطن مكروه.

أولئك هي إشارة إلى أولياء الشيطان بمراعاة معنى «من» مأواهم جهنم ولا يجدون عنها محيصا أي: معدلا؛ من حاص يحيص. وقيل: ملجأ، ومخلصا، ومحيدا، ومهربا، و «المحيص»: اسم مكان، وقيل: مصدر.

قال بعض العلماء في بيان معنى هذه الآية: يعني: إن يدعون من دونه إلا إناثا: إنما يتصورون في خيالهم النساء؛ فمنهم من يسمي واحدة منهن باسم حضرة بي بي مثلا. ومنهم من يسميها بي بي آسيا. ومنهم: من يسميها بي بي أو تأول. وبعضهم يسمي أحدا منهن: لال برى، أو: سياه برى؛ يعني: الجنية الحمراء والجنية السوداء. [ ص: 96 ] ومنهم: من يسميها: سيتلا؛ يعني: الحصبة، أو: مساني، أو: كالي. وبالجملة: فهم يتخيلون مثل هذه الخيالات.

وليس هناك - في نفس الأمر وفي أصل الحقيقة - امرأة ولا رجل، إنما هو خيال مجرد، وشيطان محض، تصل إليه نذورهم كلها. فهؤلاء يبذلون النذور للإناث، وهي واصلة إلى الشيطان، ولا فائدة منه للناذرين في الدنيا، ولا في الدين. كيف والشيطان مطرود من باب الله، مرجوم من حضرته؟ فما له وللنفع منه في الدين، وهو عدو للإنسان، لا يشاء الخير له أبدا، وإنه قد قال في تجاه الله سبحانه: إني لأتخذ عبادا كثيرا لك عبيدا لنفسي، وإني لأضلنهم عن طريق الصواب إلى أن يتبعوا خيالاتهم، ويجعلوا الحيوانات على اسمي، ويثبتوا عليها علامات على كونها نذري؛ كبتك الآذان، وتقليد أعناقها بالخيوط، وتلوين نواصيها بالحناء ونحوه، وإلقاء الوشاح على وجهها، ووضع الفلس في الفم. والحاصل: أن وضع العلامة على أي حيوان كان؛ بأنه لنذر فلان، داخل في ذلك.

وأيضا قال الشيطان: إني آمرهم بأن يغيروا الصور التي خلقها الله تعالى على هيئاتها، كما غيروا صورة الإنسان المخلوق عليها؛ فمنهم: من يجعل جعدا على الرأس على اسم أحد. ومنهم: من يثقب أنفه، وأذنه. ومنهم: من يحلق لحيته زينة للمحيا. ومنهم: من يحلق المحاسن والحواجب والشوارب كلها؛ إظهارا لكماله في الفقر والشيخوخة. ومنهم: من يرسل الشوارب إطالة لها. ومنهم: من يقصر شعور المحاسن، إلى غير ذلك من التغييرات الفاحشة والباطنة. [ ص: 97 ] ومن هذا: الوشم، والنمص، والتفليج، والوصل في الشعور. فكل ذلك تغيير لخلق الله تعالى، ووسواس من الشيطان الرجيم، وكلها خلاف مراد الله ومراد رسوله، وخلاف مرضاتهما.

فمن ترك الله، واتخذ الشيطان العدو وليا له، وسلك سبيله، واتبع خطواته، واقتفى آثار إضلاله، فقد صار مغبونا، وعاد مغرورا؛ لأن الشيطان عدو للبشر، باغض لجميع بني آدم، ولا قدرة له غير إلقاء الوساوس في قلوب الناس، فشأنه أن يعدهم المواعيد الكاذبة؛ بأنه في الاعتقاد بفلان يكون كذا، وفي الاعتقاد بفلان يحصل كذا، ويمنيهم الأماني البعيدة؛ بأنه إن كان له المال بقدر كذا، يبني حديقة كذا، ومحلة كذا، ويصنع كذا ونحوها. فيضطر الإنسان، ويتخبط، وينسى الله سبحانه عند هجوم مثل هذه الأماني والآمال، ويسعى إلى الشيطان وأوليائه؛ تحصيلا لمراداته، وقضاء لحاجاته، ولا يكون إلا ما قدر الله في حقه وقضاه. ولا ينفع الاعتقاد ولا النذور في فلان ولفلان أصلا، وما ذاك إلا وسواس الشيطان وغروره، وإغواؤه وخديعته للإنسان.

وعاقبة هذه الأمور، هو الإعراض عن الله سبحانه، والإقبال على العدو؛ بالوقوع في شرك الشرك، والنشب والعلق، والصيرورة من أهل النار، والتقيد بمصائده؛ بحيث لا يمكن الخلاص منه، وإن شاءه بمجامع قلبه وقالبه، ونعوذ بالله منه.

وقال تعالى: هو الذي خلقكم من نفس واحدة [الأعراف: 189] أي: آدم، قاله جمهور المفسرين. والتأنيث باعتبار لفظ «النفس». وهذا كلام مبتدأ يتضمن ذكر نعم الله على عباده، وعدم مكافأتهم لها بما يجب من الشكر، والاعتراف بالعبودية، وأنه المتفرد بالألوهية والربوبية.

[ ص: 98 ] وجعل منها أي: من هذه النفس، وقيل: من جنسها؛ كما في قوله تعالى: جعل لكم من أنفسكم أزواجا والأول أولى.

زوجها وهي حواء، خلقها من ضلع آدم - عليهما السلام - ليسكن علة للجعل؛ أي: لأجل أن يأنس إليها ويطمئن بها؛ فإن الجنس إلى جنسه أسكن، وبه آنس، وكان هذا في الجنة كما وردت بذلك الأخبار.

ثم ابتدأ سبحانه بحالة أخرى كانت بينهما في الدنيا بعد هبوطهما، فقال: فلما تغشاها أي: آدم زوجه، والتغشي كناية عن الوقاع. أي فلما جامعها، كنى به عن الجماع أحسن كناية؛ لأن الغشيان إتيان المرأة، وقد غشيها وتغشاها: إذا علاها وتجللها.

حملت حملا خفيفا أي: علقت به بعد الجماع. والمشهور أن «الحمل» - بالفتح-: ما كان في بطن، أو على شجرة، و «الحمل» بالكسر خلافه، وقد حكي في كل منهما الكسر والفتح.

فمرت به أي: استمرت بذلك الحمل، تقوم وتقعد، وتمضي في حوائجها، لا تجد به ثقلا ولا مشقة، ولا كلفة.

وقرئ: «فمرت به» - بالتخفيف - أي: فجزعت لذلك.

وقرئ: «فمارت به» من المور، وهو المجيء والذهاب.

قال سمرة: حملا خفيفا لم يستبن، فمرت به لما استبان حملها.

وقال ابن عباس: فمرت به؛ أي: شكت: أحملت أم لا؟

فلما أثقلت أي: صارت ذات ثقل؛ لكبر الولد في بطنها دعوا الله أي: دعا آدم وحواء ربهما ومالك أمرهما لئن آتيتنا صالحا . عن أبي صالح، قال: أشفقا أن يكون بهيمة، فقالا: لئن آتيتنا بشرا سويا. وعن مجاهد نحوه.

[ ص: 99 ] وعن الحسن، قال: غلاما سويا؛ أي: مستوي الأعضاء، خاليا عن العوج، والعرج ونحوهما، وقيل: ولدا ذكرا؛ لأن الذكورة من الصلاح.

لنكونن من الشاكرين لك على هذه النعمة. وفي هذا الدعاء دليل على أنهما قد علما أن ما حدث في بطن حواء من أثر ذلك الجماع هو من جنسهما، وعلما بثبوت النسل المتأثر عن ذلك السبب.

فلما آتاهما صالحا [الأعراف: 190] أي ما طلباه من الولد الصالح، وأجاب سبحانه دعاءهما. جعلا له شركاء فيما آتاهما . قرأ سائر أهل الكوفة بالجمع، وقرأ أهل المدينة على التوحيد، أي: شركا، وأنكره الأخفش. وأجيب عنه: بأنها صحت على حذف المضاف، أي: جعلا له ذا شرك، أو ذوي شرك.

وقال أبو عبيدة: معناه: حظا ونصيبا، وإنما عاتبها الله على ذلك؛ لأنها نظرت إلى السبب دون المسبب. فقالت: وما اسمك؟ قال: الحارث، ولو سمى لها نفسه، لعرفته، فسمته عبد الحارث، فكان هذا شركا في التسمية، ولم يكن شركا في العبادة. وقد روي هذا بطرق، وألفاظ عن جماعة من الصحابة ومن بعدهم. ويدل له حديث سمرة عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «لما ولدت حواء، طاف بها إبليس، وكان لا يعيش لها ولد، فقال: سميه عبد الحارث؛ فإنه يعيش، فسمته عبد الحارث، فعاش، فكان ذلك من وحي الشيطان وأمره». أخرجه أحمد، والترمذي وحسنه، وأبو يعلى، وابن جرير، وابن أبي حاتم، والروياني، والطبراني، وأبو الشيخ، والحاكم، وصححه ابن مردويه.

[ ص: 100 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية