الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
حقيقة المحبة والأسباب الجالبة لها

وأجمع ما قيل في ذلك: ما ذكره أبو بكر الكناني -رحمه الله- عن سيد الطائفة جنيد البغدادي -قدس سره- قال أبو بكر: جرت مسألة في المحبة بمكة -أعزها الله- في أيام الموسم، فتكلم الشيوخ فيها، وكان الجنيد أصغرهم سنا، فقالوا: هات ما عندك يا عراقي؛ فأطرق رأسه، ودمعت عيناه، ثم قال:

عبد ذاهب عن نفسه، متصل بذكر ربه، قائم بأداء حقوقه، ناظر إليه بقلبه، أحرق قلبه نور هيبته، وصفا شربه من كأس دموعه، وانكشف له الحياء من أستار هيبته، فإن تكلم فبالله، وإن نطق فعن الله، وإن تحرك فبأمر الله، وإن سكن فمع الله، فهو بالله، وعن الله، ومع الله، فبكى الشيوخ، وقالوا: ما على هذا مزيد، جبرك الله يا تاج العارفين.

وذكر -رحمه الله تعالى- أن الأسباب الجالبة للمحبة عشرة.

أحدها: قراءة القرآن بالتدبر والتفهم لمعانيه وما أريد به.

الثاني: التقرب إلى الله تعالى بالنوافل بعد الفرائض.

الثالث: دوام ذكره على كل حال، باللسان، والقلب، والعمل، والحال، فنصيبه من المحبة على قدر هذا.

الرابع: إيثار محابه على محابك عند غلبات الهوى.

الخامس: مطالعة القلب لأسمائه وصفاته ومشاهدتها، وتقلبه في رياض هذه المعرفة وميادينها.

السادس: مشاهدة بره وإحسانه، ونعمه الظاهرة والباطنة.

السابع: -وهي أعجبها- انكسار القلب بين يديه.

الثامن: الخلوة وقت النزول الإلهي، وتلاوة كتابه، ثم ختم ذلك بالاستغفار والتوبة.

[ ص: 345 ] التاسع: مجالسة المحبين الصادقين، والتقاط أطايب ثمرات كلامهم، ولا يتكلم إلا إذا ترجحت مصلحة الكلام، وعلم أن فيه مزيدا لحاله، ومنفعة لغيره.

والعاشر: مباعدة كل سبب يحول بين القلب وبين الله -عز وجل- فمن هذه الأسباب العشرة وصل المحبوب إلى منازل المحبة، ودخل على الحبيب. انتهى.

وكتاب «رياض المرتاض» في باب السلوك والسنن، كتاب نفيس جدا، فيه ما تشتهي الأنفس؛ وتلذ الأعين.

وبالجملة: فالآية الشريفة المذكورة كما ترشد إلى إيثار محبة الله تعالى على جميع ما سواه، فهكذا تدل على أن محبة ما سواه شرك لا يصح إيمان أحد حتى يبعد عنه، ويحصر محبته فيه سبحانه.

ومحب الغير واقع في شرك الشرك على قدر المحبة، فليحذر المؤمن الشحيح بدينه من أن يحب شيئا من دون الله.

فإن الإنسان إذا أحب غير الله تركه الله، وسلمه إلى ذلك الغير؛ لأنه سبحانه أغنى الأغنياء عن الشرك.

وقد قال تعالى: قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله فتربصوا حتى يأتي الله بأمره والله لا يهدي القوم الفاسقين [التوبة: 4].

أمر الله نبيه -صلى الله عليه وسلم- أن يتوعد من أحب أهله وماله وعشيرته، وتجارته ومسكنه، فآثرها أو بعضها على فعل ما أوجبه الله عليه من الأعمال التي يحبها الله ويرضاها؛ كالهجرة والجهاد ونحو ذلك.

قال العماد ابن كثير -رحمه الله-: أي: إن كانت هذه الأشياء أحب إليكم [ ص: 346 ] من الله ورسوله، وجهاد في سبيله فتربصوا؛ أي انتظروا ماذا يحل بكم من عقابه.

وروى أحمد، وأبو داود واللفظ له من حديث ابن عمر، قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: «إذا تبايعتم بالعينة، وأخذتم أذناب البقر، ورضيتم بالزرع سلط الله عليكم ذلا لا ينزعه حتى تراجعوا دينكم».

فلا بد من إيثار ما أحبه الله من عبده وأراده، على ما يحبه العبد ويريده.

فيحب ما يحبه الله، ويبغض ما يبغضه، ويوالي فيه، ويعادي فيه، ويتابع رسوله -صلى الله عليه وسلم- كما تقدم في آية المحبة ونظائرها.

عن أنس -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: «لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين» أخرجاه، وهو متفق عليه.

أي: لا يؤمن أحدكم الإيمان الواجب الكامل حتى يكون الرسول أحب إليه مما ذكر، بل ولا يحصل هذا الكمال إلا بأن يكون الرسول أحب إليه من نفسه.

كما في حديث آخر: أن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- قال: يا رسول الله! لأنت أحب إلي من كل شيء إلا من نفسي، فقال صلى الله عليه وسلم: «والذي نفسي بيده! حتى أكون أحب إليك من نفسك» فقال له عمر: فإنك الآن أحب إلي من نفسي، فقال صلى الله عليه وسلم: «الآن يا عمر» رواه البخاري.

فمن قال: إن المنفي هو الكمال، فإن أراد الكمال الواجب الذي يذم تاركه ويعرضه للعقوبة، فقد صدق، وإن أراد أن المنفي الكمال المستحب، فهذا لم يقع قط في كلام الله ورسوله -صلى الله عليه وسلم- قاله في «فتح المجيد».

وأقول: ظاهر الحديث نفي الإيمان مطلقا، ولا وجه لصرفه عن الظاهر، وإنما يصرفه عن ظاهره من ليس له هذه المرتبة في المحبة، فيرى نفسه قاصرة عن بلوغ ذروتها، فيحتاج إلى تأويل هذا الحديث؛ رجاء لبقاء الإيمان، وإبقاء عليه، ولم يدر هذا المسكين أن بعض القصور في العمل لا ينافي الأحبية إن [ ص: 347 ] شاء الله -عز وجل- وإن كانت الرتبة العليا هي كمال الاتباع، وغلبة الاجتناب عن الإشراك والذنوب والابتداع.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية الإمام -رحمه الله- من ادعى محبة النبي -صلى الله عليه وسلم- بدون متابعة، وتقديم قوله على قول غيره، فقد كذب.

كما قال تعالى: ويقولون آمنا بالله وبالرسول وأطعنا ثم يتولى فريق منهم من بعد ذلك وما أولئك بالمؤمنين [النور: 47] فنفى الإيمان عمن تولى عن طاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم.

لكن كل مسلم يكون محبا بقدر ما معه من الإسلام، وكل مسلم لا بد أن يكون مؤمنا، وإن لم يكن مؤمنا الإيمان المطلق؛ لأن ذلك لا يحصل إلا لخواص المؤمنين.

قال: وعامة الناس إذا أسلموا بعد كفر، أو ولدوا على الإسلام، والتزموا شرائعه، وكانوا من أهل الطاعة لله ورسوله فهم مسلمون، ومعهم إيمان مجمل.

لكن دخول حقائق الإيمان إلى قلوبهم يحصل شيئا فشيئا، إن أعطاهم الله ذلك، وإلا فكثير من الناس لا يصلون إلى اليقين، ولا إلى الجهاد، ولو شككوا لشكوا، ولو أمروا بالجهاد لما جاهدوا؛ إذ ليس عندهم من علم اليقين ما يدرأ عنهم الريب، ولا عندهم من قوة الحب لله ورسوله ما يقدمونه على الأهل والمال.

فهؤلاء إن عرفوا المحبة وماتوا دخلوا الجنة، فإن ابتلوا بمن يدخل عليهم شبهات توجب ريبهم، فإن لم ينعم الله عليهم بما يزيل الريب، صاروا مرتابين وانتقلوا إلى أنواع من النفاق. انتهى.

قال في «فتح المجيد»: وفي هذا الحديث: أن الأعمال من الإيمان؛ لأن المحبة عمل القلب.

[ ص: 347 ] وفيه: أن محبة الرسول -صلى الله عليه وسلم- واجبة، تابعة لمحبة الله، لازمة لها، فإنها محبة الله، ولأجلها تزيد محبة الله في قلب المؤمن وتنقص بنقصها.

وكل من كان محبا لله، فإنما يحب في الله، ولأجله، كما يحب الإيمان والعمل الصالح.

وهذه المحبة ليس فيها شيء من شوائب الشرك؛ كالاعتماد عليه، ورجائه في حصول مرغوب فيه، أو دفع مرهوب منه.

وما كان فيها ذلك فمحبته مع الله؛ لما فيها من التعلق على غيره، والرغبة إليه من دونه.

فبهذا يحصل التمييز بين المحبة في الله ولأجله، التي هي من كمال التوحيد، وتمام الإخلاص، وبين المحبة مع الله التي هي محبة الأنداد من دون الله؛ لما يتعلق بقلوب المشركين من الإلهية التي لا تجوز إلا لله وحده.

ولهما عن أنس -رضي الله عنه- أيضا، قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان، 1- من كان الله ورسوله أحب إليه مما سواهما.

2 - ومن أحب عبدا لا يحبه إلا لله.

3 - ومن يكره أن يعود في الكفر بعد أن أنقذه الله منه، كما يكره أن يلقى في النار»
الحديث، متفق عليه.

وفي رواية: «لا يجد أحد حلاوة الإيمان» أخرجه البخاري، وفي أخرى: «كما يكره أن يقذف في النار» الحديث، متفق عليه.

والمراد بالثلاث خصال ثلاث، و«الحلاوة» هنا: هي التي يعبر عنها بالذوق؛ لما يحصل به من لذة القلب ونعيمه وسروره وغذائه، وهي شيء محسوس يجده أهل الإيمان في قلوبهم.

قال السيوطي في «التوشيح»: فيه استعارة تخييلية، شبه رغبة المؤمن في الإيمان بشيء حلو، وأثبت له لازم ذلك الشيء، وأضافه إليه.

وقال النووي: معنى حلاوة الإيمان: استلذاذ الطاعات، وتحمل المشاق، [ ص: 349 ] وإيثار ذلك على أغراض الدنيا، ومحبة العبد لله بفعل طاعته، وترك مخالفته، وكذا محبة الرسول صلى الله عليه وسلم.

قال يحيى بن معاذ: حقيقة الحب في الله: أن لا يزيد بالبر، ولا يقصر بالجفا. انتهى.

ويعني بـ «سوى»: ما يحبه الإنسان بطبعه؛ كمحبة الولد والمال والأزواج ونحوها، فتكون «أحب» هنا على بابها.

وقال الخطابي: المراد بالمحبة هنا: حب الاختيار، لا حب الطبع، كذا قال.

يعني: ليس المراد هنا: حب الطبع؛ لأن حب الإنسان نفسه وولده طبع مركوز غريزي، خارج عن حد الاستطاعة، بل أراد به حب الاختيار، المستند إلى الإيمان الحاصل من الاعتقاد.

وحاصله: ترجيح جانبه صلى الله عليه وسلم في أداء حقه، بالتزام دينه، واتباع طريقه على كل من سواه، كذا في «اللمعات شرح المشكاة».

التالي السابق


الخدمات العلمية