الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
فصل في رد العدوى ونحوها

عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم-: «لا عدوى، ولا هامة، ولا صفر»، فقال أعرابي: يا رسول الله! فما بال الإبل تكون في الرمل لكأنها الظباء، فيخالطها البعير الأجرب فيجربها؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم-: «فمن أعدى الأول» ؟ رواه البخاري.

وفي رواية أخرى عنه عند مسلم مرفوعا بلفظ: «لا عدوى، ولا هامة ولا نوء، ولا صفر».

وفي حديث جابر قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم- يقول: «لا عدوى ولا صفر، ولا غول» رواه مسلم.

قال أبو السعادات: العدوى: اسم من الإعداء، كالدعوى.

فقال: أعداه الداء يعديه إعداء: إذا أصابه مثل ما بصاحب الداء.

وفي رواية لمسلم: أن أبا هريرة كان يحدث بحديث: «لا عدوى». ويحدث عن النبي صلى الله عليه وسلم-: أنه قال: «لا يورد ممرض على مصح». ثم إن أبا هريرة اقتصر على هذا الحديث، وأمسك عن حديث: «لا عدوى» ، [ ص: 156 ] فراجعوه، وقالوا: سمعناك تحدثه، فأبى أن يعترف به، قال أبو سلمة الراوي عنه: فلا أدري، أنسي أبو هريرة، أو نسخ أحد القولين الآخر.

وقد روى حديث: «لا عدوى» جماعة من الصحابة: أنس بن مالك، وجابر بن عبد الله، والسائب بن يزيد، وغيرهم.

وفي بعض روايات هذا الحديث: «وفر من المجذوم كما تفر من الأسد».

قال الشوكاني: الإنكار إذا وقع من راوي الحديث بعد أن رواه عنه الثقة لا يكون قادحا، كما تقرر في علم أصول الحديث ؛ لاحتمال النسيان.

فكيف إذا رواه عنه الثقات؟ فكيف إذا شاركه فيما رواه غيره؟ قال: وقد روى حديث: «لا عدوى»: مسلم، وأبو داود من طريق العلاء بن عبد الرحمن، عن أبيه، عن أبي هريرة.

وأخرجه أيضا أبو داود من طريق أبي صالح، عن أبي هريرة.

وأخرجه أيضا مسلم، من طريق جابر. وأخرجه البخاري ومسلم، وأبو داود، والترمذي، وابن ماجه من حديث أنس. وأخرجه أبو داود من حديث سعد بن مالك.

وهذا الحديث قد رواه عن أبي هريرة غير أبي سلمة، ورواه عن النبي صلى الله عليه وسلم- غير أبي هريرة كما بيناه. انتهى.

وقد اختلف العلماء في معنى هذا الحديث.

وأحسن ما قيل فيه قول البيهقي، وتبعه ابن الصلاح، وابن القيم، وابن رجب، وابن مفلح، وغيرهم: أن قوله: «لا عدوى» معناه: لا عدوى على الوجه الذي يعتقده أهل الجاهلية من إضافة الفعل إلى غير الله تعالى، وأن هذه الأمور تعدي بطبعها، وإلا فقد يجعل الله بمشيئته مخالطة الصحيح من به شيء من الأمراض سببا لحدوث ذلك.

ولهذا قال: «وفر من المجذوم»، وقال: «لا يورد ممرض على مصح».

[ ص: 157 ] وقال في الطاعون: «من سمع به في أرض، فلا يقدم عليها». وكل ذلك بتقدير الله.

ولأحمد، والترمذي، عن ابن مسعود مرفوعا: «لا يعدي شيء»، قالها ثلاثا.

فقال أعرابي: يا رسول الله! النقبة من الجرب تكون بمسفر البعير، أو بذنبه في الإبل العظيمة، فتجرب كلها؟.

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم-: «فمن أجرب الأول؟ لا عدوى، ولا طيرة ولا هامة ،ولا صفر، خلق الله كل نفس وكتب حياتها ومصائبها ورزقها».


فأخبر صلى الله عليه وسلم- أن ذلك كله بقضاء الله تعالى وقدره.

والعبد مأمور باتقاء أسباب الشر إذا كان في عافية.

فكما أنه يؤمر ألا يلقي نفسه في الماء، وفي النار، مما جرت العادة أنه يهلك أو يضر، فكذلك اجتناب مقاربة المريض كالمجذوم، والقدوم على بلد الطاعون، فإن هذه كلها أسباب للمرض والتلف.

فالله سبحانه هو خالق الأسباب، ومسبباتها، لا خالق غيره، ولا مقدر سواه، ولا متصرف إلا إياه.

وأما إذا قوي التوكل على الله، والإيمان وقدره، فقويت النفس على مباشرة بعض هذه الأسباب اعتمادا على الله، ورجاء منه ألا يحصل به ضرر، ففي هذه الحال تجوز مباشرة ذلك، لا سيما إذا كانت مصلحة عامة أو خاصة.

وعلى هذا يحمل الحديث الذي رواه أبو داود، والترمذي: أن النبي صلى الله عليه وسلم- أخذ بيد مجذوم، فأدخلها معه في القصعة، ثم قال: «كل باسم الله، وتوكلا عليه» ..

وقد أخذ به الإمام أحمد، وروي ذلك عن عمر، وابنه، وسلمان - رضي الله عنهم - ونظير ذلك ما روي عن خالد بن الوليد - رضي الله عنه - من أكل السم.

[ ص: 158 ] ومنه: مشي سعد بن أبي وقاص وأبي مسلم الخولاني على متن البحر، قاله ابن رجب - رحمه الله تعالى - قال الطيبي: العدوى: هاهنا: مجاوزة العلة من صاحبها إلى آخر.

يقال: أعدى فلان فلانا من خلقة، أو من علة به، وذلك على ما ذهبت المطببة في علل سبع.

وقد اختلف العلماء في تأويل هذا.

فمنهم من يقول: إن المراد منه نفي ذلك وإبطاله ؛ على ما يدل عليه ظاهر الحديث.

ومنهم من يرى: أنه لم يرد إبطالها، كما يدل عليه قول: «فر من المجذوم» الحديث. وإنما أراد بذلك نفي ما اعتقدوا، من أن العلل المتعدية مؤثرة لا محالة، فأعلمهم أنه ليس كذلك، بل هو متعلق بالمشيئة، إن شاء كان، وإن شاء لم يكن، ويشير إلى هذا المعنى قوله صلى الله عليه وسلم-: «فمن أعدى الأول؟» .

وبين بقوله: «فر من المجذوم» أن مداناة ذلك من أسباب العلة، فليتقه اتقاءه من الجدار المائل. انتهى حاصله.

قال الشوكاني - رحمه الله تعالى - في «إتحاف المهرة في الكلام على حديث لا عدوى ولا طيرة»: العدوى والطيرة المذكورتان في هذه الأحاديث نكرتان في سياق النفي، والنكرة الواقعة كذلك من صيغ العموم كما تقرر في الأصول.

فكأنه صلى الله عليه وسلم- قال: ليس شيء من أفراد العدوى والطيرة ثابتا.

ومما يقوي هذا العموم حديث ابن مسعود: «الطيرة شرك، وما منا... إلخ»، وقد تقدم.

وقال النووي في «شرح مسلم» في الكلام على حديث: «لا يورد ممرض على مصح»: قال العلماء: الممرض: صاحب الإبل المراض.

فمعنى الحديث: لا يورد إبله على أهل صاحب الإبل الصحاح ؛ لأنه ربما [ ص: 159 ] أصابها المرض بفعل الله تعالى وقدره، الذي أجرى به العادة، لا بطبعها، فيحصل لصاحبها ضرر بمرضها.

وربما حصل له ضرر أعظم من ذلك، باعتقاد العدوى بطبعها، فيكفر. والله أعلم. انتهى .

وأشار إلى نحو هذا الكلام ابن بطال، وقال: النهي ليس للعدوى، بل للتأذي بالرائحة الكريهة ونحوها، حكاه ابن رسلان في «شرح السنن».

وقال ابن الصلاح: وجه الجمع أن هذه الأمراض لا تتعدى بطبعها، ولكن الله سبحانه جعل مخالطة المريض الصحيح سببا لإعدائه مرضه، ثم قد يتخلف ذلك عن سببه كما في غيره من الأسباب.

قال الحافظ ابن حجر في شرح «النخبة»: والأولى في الجمع أن يقال: إن نفيه صلى الله عليه وسلم للعدوى باق على عمومه، وقد صح قوله: «لا يعدي شيء شيئا»، وقوله لمن عارضه بالبعير الأجرب، فرد عليه بقوله: «فمن أعدى الأول؟».

يعني: أن الله ابتدأ ذلك في الثاني، كما ابتدأ في الأول.

وأما الأمر بالفرار من المجذوم، فمن باب سد الذرائع ؛ لئلا يتفق للشخص الذي يخالطه شيء من ذلك بتقدير الله ابتداء، لا بالعدوى المنفية، فيظن أن ذلك بسبب مخالطته، فيعتمد صحة العدوى، فيقع في الحرج، فأمر بتجنبه حسما للمادة. انتهى.

وقد ذكر مثل هذا في «فتح الباري» في كتاب: الجهاد، منه.

والمناسب للعمل الأصولي: أن تجعل الأحاديث الواردة بثبوت العدوى في بعض الأمور أو الأمر بالتجنب، أو الفرار، مخصصا لعموم حديث: «لا عدوى»، وما ورد في معناه ؛ كما هو شأن العام والخاص.

فيكون الوارد في الأحاديث في قوة: «لا عدوى إلا في هذه الأمور».

وقد تقرر في الأصول: أنه يبنى العام على الخاص مع جهل التاريخ، وادعى بعضهم أنه إجماع، والتاريخ في هذه الأحاديث مجهول.

[ ص: 160 ] ولا مانع من أن يجعل الله سبحانه في بعض الأمراض خاصة يحصل بها العدوى عند المخالطة، دون بعض.

وقد ذهب إلى نحو هذا: مالك، وغيره، انتهى كلام الشوكاني. وتقدم الكلام على معنى «هامة».

التالي السابق


الخدمات العلمية