الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
وفي «صحيح البخاري» عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «رأيت عمرو بن عامر الخزاعي يجر قصبه في النار، وكان أول من سيب السوائب». وفي لفظ: «وغير دين إبراهيم».

وقال ابن إسحاق: حدثني محمد بن إبراهيم بن الحارث التميمي: أن أبا صالح السمان حدثه: أنه سمع أبا هريرة يقول: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول لأكثم بن الجون الخزاعي: «يا أكثم! رأيت عمرو بن لحي بن قمعة بن خندف يجر قصبه في النار، فما رأيت رجلا أشبه برجل منك به، ولا به منك»، فقال أكثم: عسى أن يضرني شبهه يا رسول الله! قال: «لا؛ إنك مؤمن وهو كافر، إنه أول من غير دين إسماعيل، فنصب الأوثان، وبحر البحيرة، وسيب السائبة، ووصل الوصيلة، وحمى الحامي».

قال ابن هشام: وحدثني أهل العلم: أن «عمرو بن لحي» خرج من مكة إلى [ ص: 415 ] الشام في بعض أموره، فلما قدم مأرب من أرض البلقاء، وبها يومئذ العماليق، وهم ولد عملاق بن لاوذ بن سام بن نوح: رآهم يعبدون الأصنام، فقال لهم: ما هذه الأصنام التي تعبدون؟ فقالوا: نستمطر بها فنمطر، ونستنصر بها فننصر.

فقال: أفلا تعطوني منها صنما، فأسير به على أرض العرب فيعبدونه؟ فأعطوه صنما يقال لها «هبل» فقدم به مكة، فنصبه، وأمر الناس بعبادته وتعظيمه.

قال هشام: وحدثني أبي وغيره: أن «إسماعيل» لما سكن مكة، وولد بها أولاده، فكثروا، حتى ملأوا مكة، ونفوا من كان بها من العماليق، ضاقت عليهم مكة، ووقعت بينهم الحروب والعدوات، فأخرج بعضهم بعضا، فتفسحوا في البلاد لالتماس المعاش.

وكان الذي حملهم على عبادة الأوثان والحجارة: أنه كان لا يظعن من مكة ظاعن إلا احتمل حجرا من حجارة الحرم؛ تعظيما للحرم، وصبابة بمكة، فحيثما حلوا وضعوه وطافوا به كطوافهم بالبيت؛ حبا للبيت وصبابة به، وهم بذلك يعظمون البيت ومكة، ويحجون ويعتمرون على إرث إبراهيم وإسماعيل، ثم عبدوا ما استحسنوا، ونسوا ما كانوا عليه، استبدلوا بدين إبراهيم غيره، فعبدوا الأوثان، وصاروا إلى ما كانت عليه الأمم من قبلهم، واستحرموا ما كان يعبد قوم نوح.

وفيهم على ذلك بقايا من عهد إبراهيم وإسماعيل، يتمسكون بها؛ من تعظيم البيت، والطواف به، والحج والعمرة، والوقوف بعرفة. والمزدلفة، وإهداء البدن.

وكانت «نزار» تقول في إهلالها: «لبيك لبيك لا شريك لك، إلا شريك هو لك، تملكه وما ملك».

وكان أول من غير دين إسماعيل فنصب الأوثان، وسيب السائبة، ووصل [ ص: 416 ] الوصيلة، وحمى الحامي «عمرو بن ربيعة» وهو لحي بن حارثة، وهو ابن خزاعة، وكانت أم عمرو فهيرة بنت عامر بن الحارث، وكان الحارث هو الذي يلي أمر الكعبة.

فلما بلغ عمرو بن لحي، نازعه في الولاية، وقاتل جرهم بني إسماعيل، فظفر بهم، وأجلاهم عن الكعبة، ونفاهم من بلاد مكة، وتولى حجابة البيت.

ثم إنه مرض مرضا شديدا، فقيل له: إن بالبلقاء من الشام «حمة» إن أتيتها برأت. فأتاها، فاستحم فيها، فبرأ، ووجد أهلها يعبدون الأصنام، فقال: ما هذه ؟ فقالوا: نستسقي بها المطر، ونستنصر بها على العدو.

فسألهم أن يعطوه منها، ففعلوا، فقدم بها مكة، ونصبها حول الكعبة، واتخذت العرب الأصنام.

وكان أقدمها «مناة» وكان منصوبا على ساحل البحر من ناحية المشلل بـ «قديد» بين مكة والمدينة، وكانت العرب جميعها تعظمه، وكانت «الأوس» و«الخزرج» ومن ينزل «المدينة» و«مكة» وما قارب من المواضع يعظمونه، ويذبحون له، ويهدون له، ولم يكن أحد أشد إعظاما له من الأوس والخزرج.

قال هشام: وحدثنا رجل من قريش عن أبي عبيدة بن عبد الله بن أبي عبيدة، عن محمد بن عمار بن ياسر، قال: كانت الأوس والخزرج، ومن جاورهم من عرب أهل «يثرب» وغيرها يحجون، فيقفون مع الناس المواقف كلها، ولا يحلقون رؤوسهم، فإذا نفروا أتوه، فحلقوا عنده رؤوسهم، وقاموا عنده، لا يرون لحجتهم تماما إلا بذلك.

وكانت «مناة» لـ«هذيل»، و«خزاعة»، فبعث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عليا -كرم الله وجهه- فهدمها عام الفتح.

[ ص: 417 ] ثم اتخذوا «اللات» بالطائف، وهي أحدث من «مناة»، وكانت صخرة مربعة، وكانت سدنتها من ثقيف، وكانوا قد بنوا عليها، وكانت قريش وجميع العرب تعظمها، وبها كانت العرب تسمي: زيد اللات، وتيم اللات، وكانت في موضع منارة مسجد الطائف اليسرى اليوم، فلم تزل كذلك حتى أسلمت ثقيف.

فبعث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- المغيرة بن شعبة فهدمها، فحرقها بالنار.

ثم اتخذوا «العزى»، وهي أحدث من «اللات»، اتخذها ظالم بن أسعد، وكانت بوادي نخلة فوق ذات عرق، وبنوا عليها بيتا، وكانوا يسمعون منه الصوت.

قال هشام: وحدثني أبي، عن أبي صالح، عن ابن عباس، قال: كانت «العزى» شيطانة تأتي ثلاث سمرات ببطن نخلة، فلما افتتح رسول الله صلى الله عليه وسلم «مكة» بعث خالد بن الوليد، فقال: «ائت بطن نخلة، فإنك ستجد ثلاث سمرات، فاعضد الأولى» فأتاها فعضدها.

فلما جاء إليه، قال: «أرأيت شيئا؟» قال: لا، قال: «فاعضد الثانية» فأتاها فعضدها، ثم أتى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: «هل رأيت شيئا؟» قال: لا، قال: «فاعضد الثالثة»، فأتاها، فإذا هو بجنية نافشة شعرها، واضعة يدها على عاتقها، تضرب بأنيابها، وخلفها سادنها.

فقال خالد:


كفرانك يا عزى لا سبحانك إني رأيت الله قد أهانك

ثم ضربها ففلق رأسها فإذا هي حمم، ثم عضد الشجرة، وقتل سادنها، ثم أتى النبي -صلى الله عليه وسلم- فأخبره، فقال: «تلك العزى، ولا عزى بعدها للعرب».


قال هشام: وكانت لقريش أصنام في جوف الكعبة وحولها.

وأعظمها -عندهم «هبل» وكان -فيما بلغني - من عقيق أحمر على صورة الإنسان، مكسور اليد اليمنى، أدركته قريش كذلك، فجعلوا له يدا من ذهب.

[ ص: 418 ] وكان أول من نصبه خزيمة بن مدرك بن إلياس بن مضر، وكان في جوف الكعبة.

وكان قدامه قداح مكتوب في أحدها: «صريح»، وفي الآخر: «ملصق» فإذا شكوا في مولود، أهدوا له هدية، ثم ضربوا بالقداح، فإن خرج «صريح»، ألحقوه، وإن خرج «ملصق» دفعوه.

وكانوا إذا اختصموا في أمر، أو أرادوا سفرا، أتوه، فاستقسموا بالقداح عنده .

وهو الذي قال له أبو سفيان يوم «أحد»: اعل هبل. فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «قولوا له: الله أعلى وأجل».

وكان لهم «إساف»، و«نائلة» وهما رجل وامرأة، فعلا الفاحشة في البيت، فمسخهما الله حجرين، فوضعا عند البيت ليتعظ بهما الناس.

فلما طال مكثهما، وعبدت الأصنام، عبدا معها.

وأصنام كثيرة لـ«دوس»، وبني الحارث، وقضاعة، ومزينة، وطيئ، وحولان.

وكان لبني «ملكان» صنم يسمى: سعدا، واتفقت له قصة مع رجل من بني «ملكان» قصده، فنفرت منه إبله في كل وجهة، فغضب، ورماه بحجر، وأنشد:


أتينا إلى «سعد» ليجمع شملنا     فشتتنا «سعد» فلا كان من سعد
وهل «سعد» إلا صخرة بتنوفة     من الأرض لا يدعو لغي ولا رشد

وكان لعمرو بن الجموح صنم اتخذه في داره، فلما أسلم جماعة من قومه، كانوا يذبحون على ذلك الصنم، فيطرحونه في محل العذرات، فيلتمسه، ثم يغسله، ويطيبه، فإذا أمسى ونام، فعلوا معه شيئا من ذلك.

فلما كان ذات ليلة، علق عليه سيفا، وقال له: امتنع بهذا السيف، إن كان فيك خير.

[ ص: 419 ] فلما أمسى، عدوا عليه، وأخذوا السيف من عنقه، ثم أخذوا كلبا ميتا، فقرنوه به بحبل، وألقوه في بئر.

فلما رآه لا يدافع عن نفسه، دعاه ذلك إلى الإسلام، وقال في ذلك:


والله لو كنت إلها لم تكن     أنت وكلب وسط بئر في قرن

إلى آخر أبيات له.

التالي السابق


الخدمات العلمية