الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            فصل : إذا قذف زوجته في طهر قد جامعها فيه جاز أن يلتعن منها وينفي ولدها ، وكذلك إذا أصابها بعد القذف .

                                                                                                                                            [ ص: 122 ] وقال مالك : إن قذفها في طهر قد وطئها فيه لاعن لإسقاط الحد ، ولم يلتعن لنفي النسب ، وإن وطئها بعد القذف حد ولم يلتعن ، ويجعل الوطء تكذيبا لنفسه ، واستدل بأن آية اللعان وردت في العجلاني على سبب خاص ، وهو أنه قال : " رأيت بعيني وسمعت بأذني ، وما قربتها منذ عفار النخل " ، وفي عفارها قولان :

                                                                                                                                            أحدهما : تلقيحها .

                                                                                                                                            والثاني : ترك سقيها ؛ لأنهم يتركون سقيها إذا زهت ، وذلك الحد شهران ، فقصد العجلاني بذلك أنه ترك إصابتها مدة طويلة ، فاقتضى أن يكون ترك إصابتها شرطا في جواز لعانها ؛ لأن خصوص السبب يمنع من استعمال العموم عنده ، قال : ولأنه إذا شارك الزاني في وطئها لم يعلم أن الولد من زنا فلم يجز أن يقطع في لعانه بأنه منه ، وقال : ولأن ولد الحرة الذي يلحق بالعقد أثبت نسبا من ولد الأمة الذي لا يلحق إلا بالوطء ، فلما لم يجز أن ينفي ولد الأمة إلا بعد الاستبراء فأولى أن لا ينفي ولد الحرة إلا بعد الاستبراء .

                                                                                                                                            ودليلنا قوله تعالى : والذين يرمون أزواجهم فكان عمومه فيمن أصاب زوجته أو لم يصبها ، فإن حملوه على خصوص السبب في قصة العجلاني ، فعنه ثلاثة أجوبة :

                                                                                                                                            أحدها : أن الآية نزلت في هلال بن أمية دون العجلاني ، وهلال لم يقل : إني لم أصبها ، فكان السبب عاما .

                                                                                                                                            والثاني : لو كان محمولا على قصة العجلاني في أنه لم يصبها لكون الاستبراء يخص عموم اللفظ ، لوجب أن يكون ترك إصابتها من عفار النخل مدة شهرين شرطا ، وأن يكون قول العجلاني : رأيت بعيني وسمعت بأذني شرطا ، وقوله : هي طالق ثلاثا إن كذبت عليها شرطا ، وقول النبي - صلى الله عليه وسلم - : إن جاءت به على نعت كذا فلا أراه إلا وقد صدق عليها شرطا ، ومن إجماعهم على أن هذا ليس بشرط دليل على أن ترك الإصابة ليس بشرط ، وهذا جواب الشافعي .

                                                                                                                                            والثاني : أن عموم اللفظ لا يقتضي حمله على خصوص السبب لأمرين :

                                                                                                                                            أحدهما : أن انفراد العموم والسبب يوجب الحكم بالعموم دون السبب ، فكذلك إذا اجتمعا غلب حكم العموم على السبب .

                                                                                                                                            والثاني : أن السبب بعض ما اشتمل عليه العموم ، فلم يجز أن يخص به العموم لدخوله فيه ، وخص بما نافاه لخروجه منه ، كما خص عموم قوله تعالى : والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما [ المائدة : 38 ] . بقول النبي - صلى الله عليه وسلم - : لا قطع في أقل من ربع دينار ولمنافاة العموم " ولم يخص بقطع النبي - صلى الله عليه وسلم - في " المجن " لموافقته العموم .

                                                                                                                                            ومن الدليل أيضا أنه قذف يجوز أن يلتعن منه لإسقاط الحد فجاز أن يلتعن منه [ ص: 123 ] لنفي الولد كالذي لم يطأ ؛ لأن الاستبراء لا تأثير له مع بقاء الزوجية بلحوق الولد في الحالتين ، فجاز أن ينفيه في الحالتين باللعان ، ولأن ولد الحرة يلحق بالاستدلال لإمكان الإصابة ، فجاز أن ينفى بالاستدلال لإمكان الزنا ، وخالف ولد الأمة حين لم يلحق إلا بالإصابة ، فلم ينتف إلا بالاستبراء من الإصابة ، فأما قول مالك : إنه لم يعلم بأنه من الزنا إذا لم يطأ ولا يعلم إذا وطئ ليس بصحيح ؛ لأنه قد يمتنع من الوطء وهي حائل ، وقد يطأ وهي حامل ، فكان العلم في الحالين ممتنعا ، وإنما يعتمد فيه على الأمارات ، فإن قيل : فإذا اجتمع في الرحم ماؤه وماء الزنا من أين ترجح له في نفي الولد أنه من ماء الزنا .

                                                                                                                                            قيل : قد كان أبو العباس بن سريج يذهب إلى أنه لا ينفيه مع اختلاط المائين .

                                                                                                                                            وهو خاص نص الشافعي وما عليه جمهور أصحابه ، والصحيح أن ينفيه لترجحه من وجوه منها : أن الذكي الفطن من الرجال يحس بالعلوق عند الإنزال إن كان أو لم يكن ، وكذلك من النساء .

                                                                                                                                            ومنها أنه قد يعلم من نفيه أنه عقيم لا يولد به ، ومنه أن يرى من به الولد بالزاني ما يستدل به إلى غير ذلك من الإمارات الدالة ، فجاز أن يقع الترجيح والعمل عليها إذا تحقق الزنا ، وأما استشهاده باستبراء الأمة في نفي ولدها ، فإنه لا ينفى منها إلا بالاستبراء فلذلك كان شرطا ، وولد الحرة ينتفي باللعان دون الاستبراء فلم يكن في نفيه شرط .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية