الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            معلومات الكتاب

                                                                                                                                            الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

                                                                                                                                            الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            مسألة : قال الشافعي - رضي الله عنه - : " ولو قال لها : يا زانية بنت الزانية - وأمها [ ص: 39 ] حرة مسلمة - فطلبت حد أمها لم يكن ذلك لها ، وحد لأنها إذا طلبته أو وكيلها والتعن لامرأته ، فإن لم يفعل حبس حتى يبرأ جلده فإذا برأ حد إلا أن يلتعن " .

                                                                                                                                            قال الماوردي : وهذا كما قال : لأنه يصير بقوله : يا زانية بنت الزانية قاذفا لها ولأمها بلفظين فقوله : يا زانية ، هو قذف لزوجته وليس فيه قذف لأمها .

                                                                                                                                            وقوله : بنت الزانية ، هو قذف لأمها وليس فيه قذف لها ، فوجب عليه لها حدان لا تعلق لواحد منهما بالآخر وجعله أهل العراق قذفا واحدا وأوجبوا فيه حدا واحدا ، وأجري مجرى قوله لهما : يا زانيتان ، فجمعوا بين قذفهما بلفظة واحدة ، وبين قذفهما بلفظتين في الاقتصار على حد واحد ، وعلى مذهب الشافعي : أنه متى قذفهما بلفظين وجب عليه حدان ، وإن قذفهما بلفظة واحدة ، ففيه قولان :

                                                                                                                                            أحدهما : - وهو قوله في القديم - : يجب عليه حد واحد كقول أهل العراق ، لأن لفظة القذف واحدة .

                                                                                                                                            والقول الثاني : - قوله في الجديد - : يجب عليه حدان ، لأن المقذوف اثنتان وفيما ذكرناه من تعليل هذا الشرح إبطال لقول أهل العراق ، وإذا تقرر عليه بهذين القذفين حدان : أحدهما لزوجته ، والآخر لأمها ، فحد الأم يسقط عنه بأحد أمرين ، إما بإقرارها بالزنا ، وإما بأن يقيم البينة عليها بالزنا ، وحد الزوجة يسقط عنه بأحد ثلاثة أمور : إما بإقرارها ، وإما بالبينة ، وإما باللعان ، فإن سقط الحدان عنه بإقرار أو ببينة برئ من حقهما ، وإن سقط أحدهما ثبت حق الآخر ، وإن لم يسقط واحد منهما بإقرار ولا ببينة واجتمع الحدان عليه فلهما إذا كان القاذف مطالبا ثلاثة أحوال :

                                                                                                                                            أحدها : أن تكون الزوجة حاضرة وأمها غائبة فيحد للبنت إلا أن يلتعن ، ولا يقف على حضور الأم ، فإذا حضرت الأم حد لها ، وعلى قول أهل العراق : إن حد للزوجة لم يحد للأم ؛ لأنهم يوجبون حدا واحدا ، وإن التعن من الزوجة حد للأم .

                                                                                                                                            والحال الثانية : أن تكون الأم حاضرة ، والزوجة غائبة ، فيحد للأم ، ولا يقف حدها على حضور الزوجة فإذا حضرت حد لها إلا أن يلتعن منها ، وعلى قول أهل العراق : لا يحد لها ولا يلتعن منها ؛ لأن الحد عندهم واحد فلم يوجبوا ثانيا وقد صار مجلودا في حد فلم يجز عندهم أن يلاعن .

                                                                                                                                            والحال الثالثة : أن تكونا حاضرتين مطالبتين فمذهب الشافعي أن الأم تقدم في المطالبة بحقها على البنت لأمرين :

                                                                                                                                            أحدهما : لقوة حقها ؛ لأن وجوب الحد بقذفها متفق عليه ، ووجوبه لبنتها وهي زوجته مختلف فيه .

                                                                                                                                            [ ص: 40 ] والثاني : أنه ليس من الحد لها مخرج ، وله من وجوب الحد لزوجته مخرج باللعان ، فصارت بهذين أحق بالتقدم ، وقال أبو علي بن خيران : تقدم مطالبة الزوجة على مطالبة أمها ، ولهذا القول عندي وجه ؛ لأنه قدم قذف الزوجة على قذف أمها في قوله : يا زانية بنت الزانية فصارت لتقدم قذفها أحق بالتقدم ، فإن قدمت الأم في المطالبة فحد لها ثم طالبته البنت ، فإن أجاب في مطالبتها إلى اللعان التعن منها لوقته ، وإن لم يجب إلى اللعان حبس ولم يجلد لوقته حتى يبرأ جلده ثم يحد لها ، ولا يوالى عليه بين حدين فيفضي إلى التلف ، وهكذا لو قدمت الزوجة في المطالبة فإن التعن منها حد للأم لوقته ، وإن حد للزوجة ولم يلتعن منها لم يحد في وقته للأم ، وحبس لها حتى يبرأ جلده ثم يحد لئلا يوالى عليه بين حدين ، فإن قيل : أفليس لو قطع يمين يد من رجل ، ويسرى يد من آخر ، اقتصصنا من يمناه ويسراه لوقته ، وجمعنا عليه بين قصاصين وإن أفضى إلى تلفه ، فهلا كان في الحد كذلك ؟ قيل : الفرق بينهما من وجهين :

                                                                                                                                            أحدهما : أن الحد مقدر بالشرع ، فوجب الوقوف عليه لئلا يختلط بزيادة ، والقصاص مقدر بالجناية فجاز الجمع بينهما لأنه لا يختلط بزيادة .

                                                                                                                                            والثاني : أنه جمع بين القصاصين لأنهما قد يجتمعان في حق شخص واحد ، ولم يجمع بين الحدين ؛ لأنهما لا يجتمعان في حق شخص واحد ، والله أعلم .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية