الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            معلومات الكتاب

                                                                                                                                            الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

                                                                                                                                            الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            مسألة : قال الشافعي - رضي الله عنه - : " ولما لم يخص الله أحدا من الأزواج دون غيره ولم يدل على ذلك سنة ولا إجماع كان على كل زوج جاز طلاقه ولزمه الفرض ، وكذلك كل زوجة لزمها الفرض ، ولعانهم كلهم سواء لا يختلف القول فيه والفرقة ونفي الولد ، وتختلف الحدود لمن وقعت له وعليه " .

                                                                                                                                            قال الماوردي : وهذا كما قال . اللعان يمين تصح من كل زوج صح طلاقه وظهاره ، ومع كل زوجة صح منها فعل الزنا ، سواء كانا مسلمين أو كافرين أو أحدهما مسلما والآخر كافرا ، وسواء كانا حرين أو مملوكين ، أو أحدهما حرا والآخر مملوكا ، وسواء كانا عفيفين أو محدودين في قذف أو أحدهما عفيفا والآخر محدودا ، وبه قال من التابعين : الحسن البصري ، وسعيد بن المسيب ، وسليمان بن يسار . ومن الفقهاء : ربيعة ، ومالك ، والليث بن سعد ، وسفيان الثوري ، وابن شبرمة ، وأحمد ، وإسحاق .

                                                                                                                                            وقال أبو حنيفة ، وصاحباه : اللعان شهادة لا تصح إلا من مسلمين حرين ، عفيفين ، فإن كانا كافرين أو أحدهما ، أو مملوكين أو أحدهما ، أو محدودين في قذف أو أحدهما ، لم يصح لعانه .

                                                                                                                                            وبه قال الزهري والأوزاعي ، واستدل على أن اللعان شهادة بقول الله تعالى : والذين يرمون أزواجهم ولم يكن لهم شهداء إلا أنفسهم فشهادة أحدهم أربع شهادات بالله [ النور : 6 ] فدلت هذه الآية على أن اللعان شهادة من وجهين :

                                                                                                                                            أحدهما : قوله : ولم يكن لهم شهداء إلا أنفسهم .

                                                                                                                                            فاستثناهم من الشهداء بأن جعلهم شهداء لأنفسهم ، والاستثناء من الجملة داخل في جنسها .

                                                                                                                                            [ ص: 13 ] والثاني : قوله : فشهادة أحدهم أربع شهادات بالله فعبر عنه بلفظ الشهادة وعلق عليه عدد الشهادة في الزنا ، فدل اللفظ والعدد على أنه شهادة . وقال : ولأن ما لا يصح إلا بلفظ الشهادة لم يكن يمينا وكان شهادة اعتبارا بسائر الشهادات ، قال : ولأنه رفع حكم القذف فوجب أن يكون شهادة كالبينة ، واستدل على أنه لا يصح منهما إذا كان أحدهما كافرا أو مملوكا أو محدودا . برواية عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جده ، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : أربع من النساء لا لعان بينهن وبين أزواجهن : النصرانية واليهودية تحت مسلمين ، والحرة تحت مملوك ، والمملوكة تحت حر قالوا : هذا نص ، قالوا : ولأن كل من لم يكمل الحد بقذفها لم يصح اللعان بينها وبين زوجها كالصغيرة ، قالوا : ولأن اللعان بين الزوجين كالحد في حق الأجانب ، فلما لم يجب الحد إلا بقذف حرة مسلمة لم يصح اللعان إلا من حرة مسلمة ، والدليل على أن اللعان يمين وليس شهادة : ما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال في زوجة هلال بن أمية حين جاءت بولدها على النعت المكروه : لولا ما مضى من الأيمان لكان لي ولها شأن فسمى اللعان يمينا ، ولأنه لا يجوز أن يشهد الإنسان لنفسه وإن جاز أن يحلف لها ، وكل واحد من الزوجين يلاعن عن حق لنفسه فثبت أنه يمين وليس بشهادة ، ولأنه لو كان شهادة لما لزم تكراره أربعا ؛ لأن الشهادة لا تكرر ، والأيمان قد تكرر ، ولأن الشهادة لا يتضمنها لعن ولا غضب ، ولأن المرأة لا تساوي الرجل في الشهادة وتساويه في الأيمان ، وهي في اللعان مساوية للرجل ، فثبت أنه يمين ، ولأن لفظ اللعان أن يقول : أشهد بالله ، ولا خلاف أن قول الإنسان في غير اللعان : أشهد بالله ، أنه يمين ، فكذلك في اللعان ولأنه لو كان شهادة لما صح لعان الفاسقين ، ولا من الأعميين التحصن وقد وافق على صحة لعان هذين فدل على أنه يمين وليس بشهادة ، والدليل على أنه يصح من الكافرين والمملوكين عموم قوله تعالى : والذين يرمون أزواجهم [ النور : 6 ] ولم يفرق ، ولأن كل زوج صح طلاقه صح لعانه كالحر المسلم ، ولأن كل ما خرج به الزوج من قذفه إذا كان من أهل الشهادة خرج به من القذف إن لم يكن معه أهل الشهادة كالبينة ، ولأنه ما وقعت به الفرقة بين الزوجين المسلمين وقعت به الفرقة بين الكافرين والمملوكين كالطلاق ، وأما الجواب عن استدلالهم في أنه شهادة بقوله تعالى : ولم يكن لهم شهداء إلا أنفسهم ، فمن وجهين :

                                                                                                                                            أحدهما : أنه لما أضاف الشهادة إلى نفسه خرجت من حكم الشهادات ؛ لأنه لا يصح أن يشهد لنفسه .

                                                                                                                                            والثاني : أنه وإن كان بلفظ الاستثناء ، فمن حكم الاستثناء أن يكون مخالفا لحكم المستثنى منه .

                                                                                                                                            [ ص: 14 ] أما الجواب عن استدلاله منهما بقوله تعالى : فشهادة أحدهم أربع شهادات بالله فمن وجهين :

                                                                                                                                            أحدهما : أنه قد يعبر عن اليمين بالشهادة ، كما قال تعالى : إذا جاءك المنافقون قالوا نشهد إنك لرسول الله [ المنافقون : 1 ، 2 ] إلى قوله : اتخذوا أيمانهم جنة فعبر عن أيمانهم بالشهادة .

                                                                                                                                            والثاني : أنه لما سلب لفظ الشهادة في هذا الموضع حكم الشهادات وأجري عليه حكم الأيمان من أربعة أوجه :

                                                                                                                                            أحدهما : أنه أثبت قوله في حق نفسه .

                                                                                                                                            والثاني : أنه أوجب عليه تكرار لفظه .

                                                                                                                                            والثالث : أنه قرنه باللعان والغضب .

                                                                                                                                            والرابع : أنه وصله بذكر الله ، في قوله : أشهد بالله ، دل على أنه يمين بلفظ الشهادة .

                                                                                                                                            وأما الجواب عن قولهم : إن ما لم يصح إلا بلفظة الشهادة كان شهادة ، فهو أن أصحابنا قد اختلفوا في جواز اللعان بغير لفظ الشهادة على وجهين :

                                                                                                                                            أحدهما : يجوز أن يقول : أحلف بالله ، وأقسم بالله ، وأولي بالله . كما يقول : أشهد بالله - لأن هذا صريح في اليمين فكان أولى بالجواز ، فعلى هذا يسقط الاستدلال .

                                                                                                                                            والوجه الثاني : لا يجوز إلا بلفظ الشهادة على ما جاء به النص ؛ لأن حكمه مأخوذ منه ، فعلى هذا يكون الجواب متوجها ، وهو أنه لما قرن لفظ الشهادة بذكر الله خرج عن حكم الشهادات المجردة عن ذكر الله ، وألحق بالأيمان المضافة إلى اسم الله .

                                                                                                                                            وأما الجواب عن قولهم : إنه قد يرفع حكم القذف كالبينة ، فهو أن الإقرار قد يرفع حكم القذف ولا يكون بينة .

                                                                                                                                            وأما الجواب عن استدلالهم في الفصل الثاني بحديث عمرو بن شعيب فمن ثلاثة أوجه :

                                                                                                                                            أحدهما : أن أبا يحيى الساجي قال : هذا حديث لا يثبته أصحاب الحديث ، وإذا قال إمام من أصحاب الحديث هذا ، سقط الاحتجاج به .

                                                                                                                                            والثاني : أنه مرسل ، وليست المراسيل عندنا حجة ، وذلك أن عمرو بن شعيب بن محمد بن عبد الله بن عمرو بن العاص ، وجده الأدنى ليس له صحبة ورواية ، فإذا روى عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جده كان الظاهر أنه عن محمد بن عبد الله لأنه جده الأدنى ، فمن هذا الوجه صار مرسلا لا يلزم الاحتجاج به .

                                                                                                                                            [ ص: 15 ] والثالث : أننا نسلم الحديث ، ونحمل قوله : لا لعان بين أربع ، إلا عند حاكم ، فإن قيل : فغيرهم لا يجوز لعانه إلا عند الحاكم ، فما فائدة التخصص ؟

                                                                                                                                            قيل : فائدته أنه يجوز أن يتوهم فيهم - لنقصهم بالكفر والرق - جواز لعان العبد عند سيده ، ولعان الكافر في أهل دينه ، فنفى النص هذا التوهم ، على أن أبا إسحاق المروزي قال : لو صح الحديث وجب المصير إليه والقول به ، غير أنه لم يصح .

                                                                                                                                            وأما الجواب عن قياسهم على الصغيرة : فهو أن للصغيرة حالتين : حالة يمكن وطؤها ، فاللعان فيها يصح ويكون موقوفا على بلوغها ، لأن قذفها بالزنا يمكن أن يكون صدقا ، ويمكن أن يكون كذبا .

                                                                                                                                            والحال الثانية : أن تكون صغيرة لا يمكن وطء مثلها ، فالقذف هنا مستحيل للعلم بكذبه ، فخرج عن القذف المحتمل للصدق والكذب ، فإذا استحال صدقه لم يجز أن يقول : أشهد بالله إني لمن الصادقين كمن يجوز صدقه ، فلم يجز الجمع بين متنافيين .

                                                                                                                                            أما الجواب عن قولهم : إن اللعان بين الزوجين كالحد في حق الأجانب ؛ فهو أنه غير مسلم ، بل لعان الزوج يمين في حق نفسه في سقوط حد القذف عنه ؛ وكالشهادة في حق الزوجة لوجوب حد الزنا عليها ، والشهادة تسمع على الكافرة والمملوكة ، فكذا اللعان .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية