الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            معلومات الكتاب

                                                                                                                                            الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

                                                                                                                                            الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            فصل : فإذا تقرر ما ذكرنا من القولين تفرع الحكم عليهما ، فإذا قيل بالأول منهما أنها تتربص بنفسها أربع سنين ، ثم تعتد عدة الوفاة فإنما تقدرت مدة التربص بأربع سنين : لأنها مدة أكثر العمل الذي يتحقق فيه براءة الرحم ، ثم ألزمت عدة الوفاة لأمرين : أحدهما : أن الأغلب من حال المفقود موته فلم يحتج إلى طلاق ، فإن قيل فقد أمر عمر ولي المفقود أن يطلق ، قيل لجواز أن يكون فعل ذلك استظهارا ؛ لأن المحكوم بموته لا تقف فرقة زوجته على طلاق غيره . والثاني : أن ما سوى عدة الوفاة استبراء ؛ لأنها لا تجب على غير مدخول بها ، وقد استبرأت هذه نفسها بأربع سنين فلم تحتج إلى الاستبراء ، وألزمت عدة الوفاة إحدادا ، وإذا كان كذلك فأول مدة التربص من وقت حكم الحاكم لها بالتربص . وبه قال الأوزاعي : وقال أحمد بن حنبل : أولها من وقت الغيبة ، وهذا فاسد من وجهين : أحدهما : أن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه أمرها بالتربص من وقت قضائه والعمل فيها على قوله . والثاني : أنها مدة تقدرت باجتهاد فاقتضى أن تتقدر بالحكم كأجل العنة ، وخالفت مدة الإيلاء المقدرة بالنص ، فإذا انقضت المدة بعد حكم الحاكم بها وتقدرها ، فهل يكون ذلك حكما بوفاته أم يحتاج إلى استئناف حكم : على وجهين محتملين : أحدهما : أن ما تقدم من الحكم بتقدير المدة حكم بالموت بعد انقضاء تلك المدة ؛ لأنه مقصود التقدير ، فعلى هذا إذا انقضت تلك المدة لم يلزمها معاودة الحاكم ، وصارت داخلة في العدة بعد انقضائها ، فإذا اقتضت عدتها حلت . والوجه الثاني : وهو أظهر أنه لا يكون الحكم بتقدير المدة حكما بالموت بعد انقضائها حتى يحكم لها الحاكم بموته : لأن عمر رضي الله تعالى عنه استأنف حكمها بعد انقضاء المدة : ولأن الحكم بأجل العنة لا يكون حكما بالفرقة حتى يحكم بها الحاكم ، كذلك الحكم بأجل الغيبة ، فعلى هذا لا تدخل في العدة بعد انقضاء المدة إلا بأن يحكم لها الحاكم بموته فتقع الفرقة لما حكم به من الموت ، ثم تدخل بعد حكمه في العدة وتحل حينئذ بانقضاء العدة ، فإذا حكم بالفرقة على ما وصفنا فقد اختلف أصحابنا في وقوعها ظاهرا وباطنا على وجهين : أحدهما : أنها تقع ظاهرا وباطنا حتى إن قدم الزوج حيا لم يبطل به النكاح . [ ص: 319 ] والثاني : لأن للحاكم مدخلا في إيقاع الفرقة بين الزوجين . والوجه الثاني : أنها تقع في الظاهر دون الباطن فإن قدم الزوج حيا بطل نكاح الثاني ؛ لأن حكم الحاكم لا يحيل الأمور عما هي عليه ، وفعل عمر رضي الله تعالى عنه حين خير الأول يدل على احتمال الوجهين ، فهذا حكم القول الأول ، وإذا قيل بالقول الثاني إنها باقية على الزوجية ومحبوسة على نكاحه حتى يعرف يقين موته ، وهو الصحيح الذي يعمل عليه فإن نكحت قبل مدة التربص أو بعدها كان نكاحها باطلا ، وعلى هذا لو حكم لها الحاكم بالمدة قضى بعد انقضائها بالفرقة ففي نقض حكمه وجهان : أحدهما : لا ينقض لنفوذه عن اجتهاد مسوغ وخلاف منتشر . والوجه الثاني : أن حكمه ينقض ، وقضاءه يرد ؛ لأن المروي من رجوع عمر رضي الله تعالى عنه قد رفع الخلاف وعقد الإجماع ، ولأن القياس فيهما قوي لا يحتمل خلافه ، والله أعلم .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية