الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            مسألة : قال الشافعي رحمه الله : ولا تقتل الحامل حتى تضع ، فإن لم يكن لولدها مرضع فأحب إلي أن لو تركت بطيب نفس الولي حتى يوجد له مرضع فإن لم يفعل قتلت ( قال المزني ) رحمه الله : إذا لم يوجد للمولود ما يحيا به لم يحل عندي قتله بقتل أمه حتى يوجد ما يحيا به فتقتل .

                                                                                                                                            قال الماوردي : إذا وجب القصاص على حامل أو وجب عليها وهي حائل فحملت ، لم يجز أن يقتص منها حاملا حتى تضع لقول الله تعالى فقد جعلنا لوليه سلطانا فلا يسرف في القتل [ الإسراء : 33 ] وفي قتل الحامل سرف للتعدي بقتل الحمل معها ، ولأن الغامدية أقرت عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالزنا وهي حامل ، وقالت : طهرني يا رسول الله فقال لها : اذهبي حتى تضعي حملك وأمر عمر برجم امرأة أقرت بالزنا وهي حامل فردها علي ، وقال لعمر رضي الله عنهما : إنه لا سبيل لك على ما في بطنها ، فقال عمر : لولا علي لهلك عمر .

                                                                                                                                            وقيل : بل كان القائل ذلك معاذ بن جبل ، فقال له عمر : كاد النساء يعجزن أن يلدن مثلك . والأول أشهر ولأنه قد تقابل في الحامل حقان :

                                                                                                                                            أحدهما : يوجب تعجيل قتلها وهو القصاص .

                                                                                                                                            والثاني : استبقاء حياتها وهو الحمل ، فقدم حق الحمل في الاستيفاء على حق القصاص في التعجيل لأن في تعجيل قتلها إسقاط أحد الحقين وفي إنظارها استيفاء الحقين ، فكان الإنظار أولى من التعجيل ، وسواء كانت في أول الحمل أو في آخره ، علم ذلك بحركة الحمل أو لم يعلم إلا بقولها ليستبرأ صحة دعواها .

                                                                                                                                            وقال أبو سعيد الإصطخري : لا تقبل دعواها للحمل حتى يشهد به أربع نسوة عدول ، ويعجل قتلها إن لم يشهدن لها ، وهذا خطأ لقول الله تعالى ولا يحل لهن أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهن إن كن يؤمن بالله واليوم الآخر [ البقرة : 228 ] فكان هذا الوعيد على ما وجب من قبول قولها فيه ، وتحلف عليه إن اتهمت ، فإذا وضعت حملها أمهلت حتى ترضع ولدها اللبأ الذي لا يحيا المولود إلا به ، ويتعذر وجوده من غيرها في الأغلب ، فإذا أرضعته ما لا يحيا إلا به لم يخل حاله في رضاعه من أربعة أقسام :

                                                                                                                                            أحدها : أن لا يوجد له مرضع سواها ، فالواجب الصبر عليها حتى تستكمل رضاعة حولين كاملين ، لأنه لما أخرناها لحفظ حياته حملا فأولى أن نؤخرها لحفظ [ ص: 116 ] حياته مولودا ، ولأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال للغامدية حين عادت إليه بعد وضع حملها : اذهبي حتى ترضعيه حولين كاملين .

                                                                                                                                            والقسم الثاني : أن يوجد له مرضع قد تعينت وسلم إليها ملازمة لرضاعه فيقتص منها في الحال ، وإن كانت في بقية نفاسها ، لأنه لم يبق للولد عليها حق ولا لحياته بها تعلق .

                                                                                                                                            والقسم الثالث : أن يوجد له من لا يترتب لرضاعه من النساء على الدوام ، أو يوجد له بهيمة ذات لبن يكتفي بلبنها ولا يوجد لرضاعه أحد النساء ، فيقال لولي القصاص : الأولى بك أن تصبر عليها لتقوم برضاعه ، لئلا يختلف عليه لبن النساء إذا لم يترتب له إحداهن ، أو يعدل به إلى لبن بهيمة ولبن النساء أوثق له ، ولا يلزمك الصبر ، لأن فيما يوجد من لبن البهيمة ومن لا يترتب له من النساء حفظ لحياته فإن صبر مختارا أخر قتلها ، وإن امتنع وطلب التعجيل قتلت ولم تؤخر ، وهو معنى قول الشافعي : فإن لم يكن لولدها مرضع فأحب إلي لو تركت بطيب نفس الولي حتى يوجد له مرضع ، فإن لم يفعل قتلت . وليس كما توهمه المزني أنه أراد إذا لم يوجد له مرضع أبدا .

                                                                                                                                            والقسم الرابع : أن يعلم أنه سيوجد له مرضع يترتب لرضاعه ، ولكن لم يتعين في الحال ولا تسلمته ، ففي تعجيل قتلها قبل تعيين مرضعة وتسليمه وجهان :

                                                                                                                                            أحدهما : وهو أظهرهما : تعجيل قتلها ، إلا أن يرضى الولي بإنظارها إلى تعيين المرضع وتسليمه لأننا لا نأمن على المولود من تلف النفس .

                                                                                                                                            والوجه الثاني : يجب تأخير قتلها حتى يتعين المرضع وتتسلمه ، رضي به الولي أو لم يرض : لأنه ربما تأخر تعيين المرضع وتسليمه إليها زمانا لا يصبر المولود فيه على فقد الرضاع فيتلف .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية