الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            معلومات الكتاب

                                                                                                                                            الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

                                                                                                                                            الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            مسألة : قال الشافعي ، رحمه الله : ويقتل الذابح دون الممسك كما يحد الزاني دون الممسك .

                                                                                                                                            [ ص: 83 ] قال الماوردي : وصورتها في رجل أمسك رجلا حتى قتله آخر فعلى القاتل القود ، فأما الممسك فإن كان القاتل يقدر على القتل من غير إمساك ، أو كان المقتول يقدر على الهرب بعد الإمساك فلا قود على الممسك بالإجماع .

                                                                                                                                            وإن كان القاتل لا يقدر على القتل إلا بالإمساك ، وكان المقتول لا يقدر على الهرب بعد الإمساك فقد اختلف الفقهاء في الممسك ، فمذهب الشافعي وأبي حنيفة : أنه لا قود عليه ولا دية ، ويعزر أدبا .

                                                                                                                                            وقال إبراهيم النخعي وربيعة بن أبي عبد الرحمن بحبس الممسك حتى يموت ، لأنه أمسك المقتول حتى مات ، فوجب أن يجازى بمثله ، فيحبس حتى يموت .

                                                                                                                                            وقال مالك : يقتل الممسك قودا كما يقتل القاتل إلا أن يمسك مازحا ملاعبا فلا يقاد استدلالا بقول الله تعالى فقد جعلنا لوليه سلطانا [ الإسراء : 33 ] .

                                                                                                                                            وبما روي عن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه أنه قتل جماعة بواحد .

                                                                                                                                            وقال : لو تمالأ عليه أهل صنعاء لقتلتهم به أي لو تعاونوا عليه .

                                                                                                                                            والممسك قد عاون على القتل ولأنهما تعاونا في قتله ، فوجب أن يستويا في القود ، كما لو اشتركا في قتله ، ولأن ممسك الصيد لما جرى عليه حكم القاتل في وجوب الجزاء ، ولو أمسكه أحد المجرمين وقتله الآخر اشتركا في الجزاء ، وجب أن يكون ممسك المقتول يجري عليه حكم القاتل في وجوب القود ، ويكونا فيه سواء ، ولأن الإمساك سبب أفضى إلى القتل فلم يمنع أن يجري عليه حكم المباشرة للقتل كالشهود إذا شهدوا عند الحاكم على رجل بالقتل فقتل ، ثم رجعوا قتلوا قودا بالشهادة ، وإن كانت سببا كذلك الممسك .

                                                                                                                                            ودليلنا ما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : يقتل القاتل ، ويصبر الصابر .

                                                                                                                                            قال أبو عبيدة : يعني يحبس لأن المصبور هو المحبوس ، يريد بالحبس التأديب لا كما تأوله ربيعة على الحبس إلى الموت ، ولأن الإمساك سبب ، والقتل مباشرة ، فإذا اجتمعا ولم يكن في السبب إلجاء كالشهود سقط حكم السبب بوجود المباشرة ، كما لو حفر رجل بئرا فدفع رجل فيها إنسانا فمات كان القود على الدافع دون الحافر ، ولأن هذا القاتل قد يصل إلى القتل تارة بالإمساك وتارة بالحبس ، ثم ثبت أنه لو قتله بعد الحبس لم يقتل الحابس ، كذلك إذا قتله بعد الإمساك لم يقتل الممسك ، ولأن حكم الممسك مخالف لحكم المباشر في الزنا ، لأنه لو أمسك امرأة حتى زنا بها رجل ، [ ص: 84 ] وجب الحد على الزاني دون الممسك . ووجب أن يكون حكم الممسك في القتل بمثابته في وجوب القود على القاتل دون الممسك . ولو جاز أن يساويه في القود جاز أن يساويه في الحد .

                                                                                                                                            ولأن الإمساك غير مضمون لو انفرد فكان أولى أن لا يضمن إذا تعقبه القتل .

                                                                                                                                            ولأن ما لا يضمن خطؤه لم يضمن عمده كالضرب بما لا يقتل .

                                                                                                                                            فأما الآية فقد قال فلا يسرف في القتل [ الإسراء : 33 ] والسرف أن يتجاوز القاتل إلى من ليس بقاتل .

                                                                                                                                            وقول عمر رضي الله تعالى عنه : لو تمالأ عليه أهل صنعاء لقتلتهم به . محمول على اشتراكهم في قتله ، لأن المعاونة هي التساوي في الفعل ، وبه يجاب عن قياسهم على الاشتراك في القتل ، ثم المعنى في المشتركين في القتل أن كل واحد منهما يضمن إذا انفرد ، فضمن إذا شارك والممسك لا يضمن إذا انفرد فلم يضمن إذا تعقبه قاتل . وأما إمساك العبد فإنما يضمن به العبد ، لأنه مضمون باليد إذا انفردت ، والمقتول غير مضمون باليد ، وإنما يضمن بالجناية ، ولو كان الإمساك جاريا مجرى مباشرة القتل لوجب إذا أمسك المجوسي شاة فذبحها مسلم أن لا تؤكل ، كما لو اشترك في ذبحها مجوسي ومسلم ، وفي إجماعهم على جواز أكلها دليل على الفرق بين الممسك والمشارك .

                                                                                                                                            وما استدلوا به من الشاهدين فلا يصح لأنهما ألجأا الحاكم إلى القتل ، ولم يكن من الممسك إلجاء فافترقا .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية