الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            مسألة : قال الشافعي رضي الله عنه : ولم أعلم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حكم فيما دون الموضحة بشيء ففيما دونها حكومة لا يبلغ بها قدر موضحة وإن كان الشين أكثر .

                                                                                                                                            قال الماوردي : قد ذكرنا شجاج الرأس قبل الموضحة وأنها ست :

                                                                                                                                            الحارصة : وهي التي تشق الجلد .

                                                                                                                                            ثم الدامية ، وهي التي يدمى بها موضع الشق .

                                                                                                                                            ثم الدامغة ، وهي التي يدمغ منها الدم .

                                                                                                                                            ثم الباضعة وهي التي تبضع اللحم فتشقه .

                                                                                                                                            ثم المتلاحمة وهي التي تمور في اللحم حتى تنزل فيه وقد تسمى البازلة ، ومنهم [ ص: 238 ] من جعل البازلة شجة زائدة بين الباضعة والمتلاحمة فيجعل ما قبل الموضحة سبعا .

                                                                                                                                            ثم السمحاق وهي التي تمور جميع اللحم حتى تصل إلى سمحاق الرأس وهي جلدة تغشى عظم الدماغ ، ويسميها أهل المدينة الملطاة ، ومنهم من جعلها بين المتلاحمة والسمحاق فيجعل شجاج ما قبل الموضحة ثمانيا ، ولا أعرف لهذه الملطاة حدا يزيد على المتلاحمة وتنقص عن السمحاق فيصير وسطا بينهما ، وليس في جميع هذه الشجاج التي قبل الموضحة أرش مقدر بالنص ، وأول الشجاج التي ورد النص بتقدير أرشها الموضحة لانتهائها إلى حد مقدر فصار أرشها مقدرا كالأطراف ، وإذا لم يتقدر أرش ما قبل الموضحة نصا فقد اختلف أصحابنا فيه على ثلاثة أوجه :

                                                                                                                                            أحدها : وهو الظاهر من نصوص الشافعي ، وقول جمهور أصحابه : أن فيها حكومة يختلف قدرها باختلاف شينها تتقدر بالاجتهاد ولا يصير ما قدره الاجتهاد فيها مقدرا معتبرا في غيرها ، لجواز زيادة الشين ونقصانه ، فإذا أفضى الاجتهاد في حكومة أرشها إلى مقدار ينقص من دية الموضحة على ما سنصفه من صفة الاجتهاد أوجبنا جميعه ، وإن زاد على دية الموضحة أو ساواها لم يحكم بجميعه ونقص من دية الموضحة بحسب ما يؤديه الاجتهاد إليه ، لأن شينها لو كان في موضحة لم يزد على ديتها ، فإذا كان فيما دون الموضحة وجب أن ينقص من ديتها .

                                                                                                                                            فإن قيل : فقد يجب فيما دون النفس أكثر من الدية وإن لم يجب في النفس إلا الدية فهلا وجب فيما دون الموضحة بحسب الشين أكثر مما يجب في الموضحة .

                                                                                                                                            قيل : لأن ما دون الموضحة بعض الموضحة وبعضها لا يكافئها وليست الأطراف بعض النفس ، لأن النفس لا تتبعض فجاز أن يجب فيها أكثر مما يجب في النفس .

                                                                                                                                            والوجه الثاني : وهو محكي عن أبي العباس بن سريج أن أروشها مقدرة بالاجتهاد كما تقدرت الموضحة وما فوقها بالنص ولا يمتنع إثبات المقادير اجتهادا كما تقدر القلتان بخمسمائة رطل اجتهادا ، فجعل في الحارصة بعيرا واحدا ، وجعل في الدامية والدامغة بعيرين ، وجعل في الباضعة ، والبازلة ، والمتلاحمة ثلاثة أبعرة ، وجعل في الملطاة ، والسمحاق أربعة أبعرة ، لأنها أقرب الشجاج من الموضحة ، فكان أرشها أقرب الأروش إلى دية الموضحة ، ولما كانت الحارصة أول الشجاج كان فيها أول ما في الموضحة وكان فيما بين الطرفين ما يقتضيه قربة من أحدهما فلذلك رتبه في التقدير على ما ذكره ، وهذا وإن كان مستقرا بالظاهر فاسد من وجهين :

                                                                                                                                            أحدهما : أن ما دخله الاجتهاد بحسب الزيادة والنقصان كان حكمه موقوفا عليه .

                                                                                                                                            والثاني : أنه لو جاز أن يستقر الاجتهاد فيه بمقدار محدود لا يزاد عليه ولا ينقص [ ص: 239 ] منه لكان اجتهاد الصحابة رضي الله عنهم فيه أمضى وتقديرهم له ألزم ، وقد روى سعيد بن المسيب عن عمر وعثمان أنهما قضيا في الملطاة والسمحاق بنصف ما في الموضحة .

                                                                                                                                            والوجه الثالث : حكاه أبو إسحاق المروزي وأبو علي بن أبي هريرة عن الشافعي أن يعتبر قدر ما انتهت إليه في اللحم من مقدار ما بلغته الموضحة حتى وصلت إلى العظم إذا أمكن ، فإذا عرف مقداره من ربع أو ثلث أو نصف كان فيه بقدر ذلك من دية الموضحة ، فإن علم أنه النصف وشك في الزيادة اعتبر شكه بتقويم الحكومة ، فإن زاد على النصف وبلغ الثلثين زال حكم الشك في الزيادة بإثباتها وحكم بها ، ولزم ثلثا دية الموضحة ، وإن بلغت النصف زال حكم الشك في الزيادة بإسقاطها وحكم بنصف الدية ، وإن نقصت عن النصف بطل حكم النقصان والزيادة وثبت حكم النصف ، فإن لم يعلم مقدار ذلك من الموضحة عدل حينئذ إلى الحكومة التي يتقدر الأرش فيها بالتقويم على ما سنذكره ، ولهذا الوجه وجه إن لم يدفعه أصل وذلك أن مقدار الحكومة معتبر بشيئين : الضرر والشين ، وهما لا يتقدران بمقدار المور في اللحم .

                                                                                                                                            وحكي عن الشعبي أنه قال : ليس فيما دون الموضحة أرش ، وليس على الجاني إلا أجرة الطبيب لعدم النص فيه ، وهذا فاسد من وجهين :

                                                                                                                                            أحدهما : أن المنصوص عليه أصل للمسكوت عنه .

                                                                                                                                            والثاني : أنه قد أوجب أجرة الطبيب ولم يرد بها شرع ، وأسقط أرش الدم وقد ورد به شرع ، والله أعلم بالصواب .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية