الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                صفحة جزء
                                                980 ص: فكان من الحجة عليهم لمخالفيهم أن حديث أيوب الذي قال فيه: " فسار حتى غاب الشفق ثم نزل" كل أصحاب نافع لم يذكروا ذلك لا عبيد الله ولا مالك ولا الليث ولا من قد روينا عنه حديث ابن عمر في هذا الباب، وإنما أخبر بذلك من فعل ابن عمر ، وذكر عن النبي -عليه السلام- الجمع ولم يذكر كيف جمع، فأما حديث عبيد الله : " أن رسول الله -عليه السلام- جمع بينهما " . ثم ذكر جمع ابن عمر كيف كان وأنه كان بعد ما غاب الشفق، فقد يجوز أن يكون أراد أن صلاة العشاء الآخرة التي بها كان جامعا بين الصلاتين بعد ما غاب الشفق، وإن كان قد صلى المغرب قبل غيبوبة الشفق؛ لأنه لم يكن قط جامعا بينهما، حتى صلى العشاء الآخرة، فصار بذلك جامعا بين المغرب والعشاء ، وقد روى ذلك غير أيوب مفسرا على ما قلنا.

                                                [ ص: 258 ] كما حدثنا فهد ، قال: ثنا الحماني ، قال: ثنا عبد الله بن المبارك ، عن أسامة بن زيد ، قال: أخبرني نافع : " أن ابن عمر -رضي الله عنهما- جد به السير، فراح روحة لم ينزل إلا لظهر أو لعصر، وأخر المغرب حتى صرخ به سالم فقال: الصلاة، وصمت ابن عمر حتى إذا كان عند غيبوبة الشفق نزل فجمع بينهما، وقال: رأيت النبي -عليه السلام- يصنع هكذا إذا جد به السير " .

                                                قال أبو جعفر - رحمه الله -: ففي هذا الحديث أن نزوله للمغرب كان قبل أن يغيب الشفق فاحتمل أن يكون قول نافع : " بعد ما غاب الشفق" في حديث أيوب إنما أراد به قربه من غيبوبة الشفق لئلا يتضاد ما روي عنه في ذلك.

                                                التالي السابق


                                                ش: هذا جواب عن المعارضة المذكورة؛ أي: فكان من الحجة على أهل المقالة الأولى للذين خالفوهم فيما ذهبوا إليه؛ وهم أهل المقالة الثانية، بيان ذلك: أن أصحاب نافع مثل عبيد الله بن عمر ومالك بن أنس والليث بن سعد الذين رووا هذا الحديث عنه لم يذكروا في حديثهم ما ذكره أيوب السختياني عنه من قوله: "فسار حتى غاب الشفق" ولا ذكر ذلك أيضا من روى هنا غير نافع عن ابن عمر في هذا الباب مثل سالم بن عبد الله عن أبيه عبد الله ، ومثل إسماعيل بن أبي ذئب عن عبد الله ، وهو معنى قوله: ولا من قد روينا عنه حديث ابن عمر في هذا الباب، وإنما أخبر نافع بذلك عن فعل ابن عمر لا عن فعل النبي -عليه السلام-، وإنما الذي ذكر عن النبي -عليه السلام- أنه جمع بينهما، ولم يذكر كيف جمع، ولو كان ما فعله ابن عمر منقولا عن فعل النبي -عليه السلام- لكان يتم استدلال الخصم به، فحيث لم يكن منقولا عن فعله -عليه السلام- لم يتم استدلالهم به، على أن غير أيوب قد روى ذلك مفسرا، وهو رواية أسامة بن زيد ، عن نافع : "أن ابن عمر جد به السير..." الحديث، وفيه أن نزوله للمغرب كان قبل أن يغيب الشفق ، وهو يخالف رواية أيوب عنه.

                                                وبينهما تضاد ظاهرا، فيتعين التوفيق بينهما؛ دفعا للتضاد، ووجهه أن تحمل رواية أيوب عن نافع : "بعد ما غاب الشفق" على أن المراد به قربه من غيبوبة [ ص: 259 ] الشفق، ومثل هذا يقع في الكلام كثيرا حتى في كلام الله - عز وجل - كما في قوله تعالى: فبلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف أو سرحوهن بمعروف فبعد بلوغ الأجل الذي هو العدة لا يتصور الإمساك؛ لأنها تبين من زوجها حينئذ، وإنما معناه: فإذا شارفن على بلوغ الأجل وقربت منه، وها هنا كذلك بعد ما قرب غياب الشفق، هذا الذي قاله الطحاوي ، والذي قلته أنا أيضا له وجه حسن، وهو أن المراد من قوله: "بعد ما غاب الشفق" هو الشفق الأحمر الذي يكون قبل الأبيض؛ وذلك لأن الشفق نوعان: أحمر، وأبيض، كما هو معروف بين أهل العلم من الصحابة والتابعين ومن بعدهم، وكان نزول ابن عمر -رضي الله عنهما- بعد غياب الشفق الأحمر، ووقت المغرب حينئذ باق، على قول من يقول: الشفق هو الأبيض، فيكون قد صلى المغرب في وقتها، ثم صلى العشاء في أول وقتها على قول من يقول: الشفق هو الأحمر، فيكون جامعا بين الصلاتين فعلا لا وقتا؛ فافهم.

                                                فبهذين الجوابين يسقط جميع ما وجهه البيهقي في كتبه من أن الجمع بينهما كان بعد غياب الشفق؛ لأن الروايات متعارضة ظاهرا، فلا يرتفع التعارض إلا بما ذكرنا، ومن جملة ما أورد: حديث جابر ، عن نافع ، عن ابن عمر : "أنه مضى حتى إذا كان من آخر الشفق نزل فصلى المغرب ثم أقام الصلاة وقد توارى الشفق" . ثم قال: وبمعناه رواه فضيل بن غزوان وعطاف بن خالد ، عن نافع ، وهذا لا يتم به مدعاه؛ لأنه قال: "حتى إذا كان من آخر الشفق".

                                                فالمفهوم منه أنه صلى المغرب قبل غياب الشفق، ثم صلى العشاء وقد توارى الشفق، وهذا بعينه ما ذهبنا إليه من أنه أخر الأولى إلى آخر وقتها، وقدم الآخرة في أول وقتها.

                                                والذي يؤيد هذا ما رواه أبو داود في "سننه": من حديث محمد بن فضيل ، عن [ ص: 260 ] أبيه، عن نافع وعبد الله بن واقد ، وفيه أنه قبل غروب الشفق صلى المغرب، ثم انتظر حتى غاب الشفق وصلى العشاء، وهذا من مما نحتج به عليهم.

                                                وقال أبو داود : حدثنا قتيبة ، ثنا عبد الله بن نافع ، عن أبي مودود ، عن سليمان بن أبي يحيى ، عن ابن عمر قال: "ما جمع رسول الله -عليه السلام- بين المغرب والعشاء قط في سفر إلا مرة" . قال أبو داود : وهذا يروى عن أيوب عن نافع موقوفا على ابن عمر أنه لم ير ابن عمر جمع بينهما قط إلا بتلك الليلة؛ يعني ليلة استصرخ على صفية ، وروى من حديث مكحول عن نافع : "أنه رأى ابن عمر قبل ذلك مرة أو مرتين" .

                                                ومن جملة ما أورد أيضا: أن عاصم بن محمد رواه عن أخيه عمر بن محمد ، عن سالم ، عن ابن عمر كرواية الذين رووا عن نافع عن ابن عمر : "أن الجمع بينهما كان بعد غياب الشفق" . وهذا أيضا لا يتم به مدعاه؛ لما ذكرنا.

                                                على أن النسائي روى هذا الحديث: عن سالم ، عن ابن عمر ، من وجه آخر بخلاف هذا، وقال: أنا عبدة بن عبد الرحيم ، قال: أنا ابن شميل ، قال: ثنا كثير بن قاروندا قال: "سألنا سالم بن عبد الله عن الصلاة في السفر، فقلنا: أكان عبد الله يجمع بين شيء من الصلوات في السفر؟ قال: لا إلا بجمع، ثم أتيته فقال: كانت عنده صفية ، فأرسلت إليه: إني في آخر يوم من الدنيا وأول يوم من الآخرة، فركب وأنا معه، فأسرع السير، حتى حانت الصلاة فقال له المؤذن: الصلاة، يا أبا عبد الرحمن ، فسار حتى إذا كان بين (الصلاتين) نزل، فقال للمؤذن: أقم، فإذا سلمت من الظهر، فأقم مكانك، فأقام فصلى الظهر ركعتين، ثم سلم، ثم أقام مكانه فصلى العصر ركعتين، ثم ركب فأسرع السير حتى غابت الشمس، فقال له المؤذن: الصلاة يا أبا عبد الرحمن ، فقال: كفعلك الأول، فسار حتى إذا اشتبكت [ ص: 261 ] النجوم نزل، فقال: أقم، فإذا سلمت فأقم، فصلى المغرب ثلاثا، ثم أقام مكانه فصلى العشاء الآخرة، ثم سلم واحدة تلقاء وجه، ثم قال: قال رسول الله -عليه السلام-: إذا حضر أحدكم أمر يخشى فوته فليصل هذه الصلاة" .

                                                وهذا سند جيد ورجاله ثقات، وإسناد حديث فهد بن سليمان ، عن يحيى بن عبد الحميد الحماني صحيح، ورجاله قد ذكروا غير مرة.



                                                الخدمات العلمية