الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                صفحة جزء
                                                1146 ص: فإن قال قائل: وكيف يكون ذلك كذلك وقد روي عن أنس -رضي الله عنه- في ذم من يؤخر العصر ؟ فذكر في ذلك ما قد حدثنا يونس ، قال: أنا ابن وهب ، أن مالكا حدثه، عن العلاء بن عبد الرحمن ، أنه قال: "دخلت على أنس بن مالك بعد الظهر، فقام يصلي العصر، فلما فرغ من صلاته، ذكرنا تعجيل الصلاة - أو ذكرها - فقال: سمعت رسول الله -عليه السلام- يقول: تلك صلاة المنافقين - قالها ثلاثا - يجلس أحدهم حتى إذا اصفرت الشمس، وكانت بين قرني شيطان - أو على قرني الشيطان - قام فنقرها أربعا لا يذكر الله - عز وجل - فيهن إلا قليلا" .

                                                قيل له: قد بين أنس في هذا الحديث التأخير المكروه ما هو، إنما هو التأخير الذي لا يمكن بعده أن يصلي العصر إلا أربعا، لا يذكر الله فيها إلا قليلا، فأما صلاة يصليها متمكنا ويذكر الله فيها متمكنا قبل تغير الشمس، فليس ذلك من الأول في شيء، وأولى بنا في هذه الآثار لما جاءت هذا المجيء أن نحملها ونخرج وجوهها على الاتفاق، لا على الخلاف والتضاد، فنجعل التأخير المكروه فيها هو ما بينه العلاء عن أنس ، ونجعل الوقت المستحب من وقتها أن تصل فيه هو ما بينه أبو الأبيض عن أنس ، ووافقه على ذلك أبو مسعود -رضي الله عنه-.

                                                التالي السابق


                                                ش: أي كيف يكون ما ذكرتم كما ذكرتم أنه يدل على أنه -عليه السلام- قد كان يؤخرها؟

                                                تقرير السؤال: أنه -عليه السلام- ذم من يؤخر العصر في حديث أنس هذا، وذلك لا يكون إلا في شيء مكروه، فدل أن تأخير العصر مكروه.

                                                وتقرير الجواب: أن حديث أنس هذا وارد في التأخير المكروه، وهو أن تؤخر إلى أن يبقى من الوقت قدر ما يسع فيه أربع ركعات بالضيق بحيث لا يقدر على ذكر الله تعالى فيها إلا شيئا قليلا، فهذا هو التأخير المذموم صاحبه، الملوم عليه، وأما الصلاة التي يصليها متمكنا بسعة في الوقت، ويذكر الله فيها كثيرا متمكنا قبل تغير الشمس فليست بمكروهة ولا صاحبها بمذموم عليها، وبهذا يحصل الاتفاق [ ص: 482 ] بين هذه الآثار المذكورة التي فيها تضاد وخلاف ظاهرا، والعمل بالكل بالتوفيق بينها أولى من العمل ببعضها وترك بعضها، وقد أشار إلى ذلك بقوله: "وأولى بنا في هذه الآثار... إلى آخره.

                                                وقوله: (أن نحملها) في محل الرفع على الابتداء، و: "أن "مصدرية، وخبره قوله: "وأولى بنا" والتقدير: حمل الآثار وتخريج وجوهها على الاتفاق أولى بنا من تركها على الخلاف والتضاد.

                                                قوله: (ووافقه على ذلك) أي: وافق أنسا على ما رواه أبو الأبيض عنه؛ أبو مسعود عقبة بن عمرو البدري .

                                                ثم إسناد الحديث المذكور صحيح على شرط مسلم .

                                                وأخرجه مسلم : ثنا يحيى بن أيوب ومحمد بن الصباح وقتيبة وابن حجر ، قالوا: أنا إسماعيل بن جعفر ، عن العلاء بن عبد الرحمن : "أنه دخل على أنس بن مالك في داره بالبصرة حين انصرف من الظهر، وداره بجنب المسجد، فلما دخلنا عليه قال: أصليتم العصر؟ فقلنا له: إنما انصرفنا الساعة من الظهر، قال: فصلوا العصر، فقمنا فصلينا، فلما انصرفنا قال: سمعت رسول الله -عليه السلام- يقول: تلك صلاة المنافقين، يجلس يرقب الشمس حتى إذا كانت بين قرني الشيطان قام فنقرها أربعا، لا يذكر الله فيها إلا قليلا" .

                                                وأخرجه أبو داود : ثنا القعنبي ، عن مالك ، عن العلاء بن عبد الرحمن ، أنه قال: "دخلنا على أنس بن مالك بعد الظهر..." إلى آخره نحو رواية الطحاوي سواء.

                                                وأخرجه الترمذي : ثنا علي بن حجر ، قال: ثنا إسماعيل بن جعفر ، عن العلاء بن عبد الرحمن : "أنه دخل على أنس بن مالك ..." إلى آخره نحو رواية مسلم .

                                                [ ص: 483 ] وأخرجه النسائي : أنا علي بن حجر [بن] إياس بن مقاتل بن مشمرج [بن] خالد ، قال: ثنا إسماعيل ، قال: ثنا العلاء : "أنه دخل على أنس بن مالك في داره بالبصرة ..." إلى آخره نحو رواية مسلم .

                                                قوله: (بعد الظهر) أي بعد صلاة الظهر.

                                                قوله: (تلك صلاة المنافقين) إشارة إلى صلاة العصر التي تصلى في اصفرار الشمس، وتؤخر هذا التأخير بلا عذر.

                                                قوله: (قالها ثلاثا) أي: قال -عليه السلام- هذه الكلمة ثلاث مرات، أعني قال: "تلك صلاة المنافقين، تلك صلاة المنافقين، تلك صلاة المنافقين" كما قد وقع مصرحا في رواية أبي داود ، وإنما كررها ثلاثا ليكون أبلغ في ذم تأخيرها بلا عذر .

                                                قوله: (يجلس أحدهم...) إلى آخره، بيان هذه الصلاة التي وقع فيها وفي صاحبها الذم.

                                                قوله: (بين قرني شيطان) قد مر الكلام فيه مستوفى في باب مواقيت الصلاة.

                                                قوله: (فنقرها أربعا) أي: أربع نقرات، أراد بها الركعات الخارجة عن التريث من نقر الديك أو الغراب، وهو كناية عن تخفيفها جدا بحيث لا يمكث فيها إلا قدر وضع الديك أو الغراب منقاره فيما يريد أكله.

                                                قوله: (لا يذكر الله - عز وجل - فيهن إلا قليلا) صفة لقوله: "أربعا" وذلك لاستعجاله فيها خوفا من غروب الشمس، لا بقدر أن يأتي بالقراءة كما ينبغي ولا بالتسبيحات والأدعية على صفاتها، وانتصاب "قليلا" على أنه صفة لمصدر محذوف، والتقدير: لا يذكر الله فيها إلا ذكرا قليلا.




                                                الخدمات العلمية